لم تتمكّن إيران من التمَدّد في المنطقة لولا وجود إرادة أميركية رداً على أحداث 11 أيلول 2001، فهل هذه الإرادة ما زالت مستمرة أم انّ الحاجة لدور «الفزّاعة» قد انتفى؟
لا يجب ان تكون مقاربة المسألة الأميركية الإيرانية على قاعدة كل شيء او لا شيء، بمعنى إمّا أبيض أو أسود، إمّا إطلاق يدّ وإمّا حصار وإسقاط النظام، فهناك دائما مدّ وجزر تبعاً لكل مرحلة ومتطلباتها، فمرحلة ما قبل أحداث 11 أيلول كان الجزر هو الهدف الذي تبدّل بعد هذه الأحداث باتجاه المدّ، وقد يكون عنوان المرحلة المقبلة الجزر مجددا، ولكن الكيد ألا نية لإسقاط النظام الإيراني، وذلك ليس حباً بهذا النظام، إنما انطلاقا من نظام المصلحة الذي يقضي الحفاظ على الأوراق كلها واستخدامها في الوقت المناسب كما فعلت بعد العام 2001.
وما يهمّ الولايات المتحدة يكمن في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، وقد حقّق لها الدور الإيراني ثلاثة أهداف أساسية:
أولاً: التقارب بين الدول العربية وإسرائيل، ولم يكن ليتم هذا التقارب لولا الشعور الذي اختلج العرب بأنّ التهديد الفعلي لوجودهم ودورهم مُتأت من طهران لا من تل أبيب.
ثانياً: التوازن بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط والذي من خلاله تحافظ واشنطن على حاجة الفريقين لها في أكثر من مجال، بدءاً من ترسيم حدود كل فريق، وصولاً إلى الحاجة الدائمة للتسلّح، وما بينهما حماية إسرائيل تكون بالابتعاد عن نظام القطبين في المنطقة، اي العالم الإسلامي في مواجهة تل أبيب، ومن هنا حاجتها للدور الإيراني والتركي والعربي.
ثالثاً: أدى الصعود الشيعي إلى مقاربة عربية وخليجية مختلفة لإدارة الحكم، وهذه المقاربة التي تُبدّي أولوية الاقتصاد والازدهار هي الكفيلة بتجفيف منابع الإرهاب ومحاصرته والقضاء عليه.
وتدرك واشنطن انّ الدور الإيراني تسبّب بأضرار كبرى وحروب وعدم استقرار، ولكنها توازن بين ضرر هذا الدور وفوائده، وكانت ترى حتى الأمس القريب ان فوائده الاستراتيجية تتفوّق على سلبياته، فما همّ واشنطن مثلا إذا لم يستعِد لبنان سيادته وبقيت أحوال سوريا والعراق واليمن على ما هي عليه، إنما همّها الأساس تحقيق أهدافها الاستراتيجية في التطبيع والتوازن والتطوير.
وتدرك واشنطن ان الطريق لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة متفجرة ومزروعة بالألغام، فهذه الأهداف لا تتحقّق على البارد، وما تحقّق لغاية اليوم تم عن طريق الدور الإيراني المزعزع للاستقرار، وهذا ما يجعلها تتفهّم حاجة إيران إلى أذرعها في المنطقة طالما انها تخدم الاستراتيجية الأميركية، وإعادة النظر بالدور الإيراني تبدأ عندما يمس بعمق المصالح الأميركية.
فالتهديد الإيراني للدور العربي يجعل العرب أكثر حاجة إلى واشنطن، ونجحت الأخيرة في المقابل بإدارة الصراع بين تل أبيب وطهران، ولكن يبدو ان هذا الصراع خرج عن ضوابطه الأميركية والإيرانية مع عملية «طوفان الأقصى» والشعور الإسرائيلي للمرة الأولى ان تهديدها الوجودي مصدره إيران على رغم ان الأخيرة تَنصّلت من مسؤوليتها عن عملية 7 تشرين.
وإذا كان الدور الإيراني حاجة أميركية، فيعني ان واشنطن تتفهّم حاجة إيران لتعزيز دورها عن طريق مواجهة إسرائيل ضمن مواجهات مضبوطة، ولكن حدود هذا التفهُّم المزايدة على العرب والسنة بمواجهة إسرائيل وليس الوصول إلى تهديد وجود تل أبيب على غرار ما حصل مع «طوفان الأقصى» الذي شكّل تحولاً استراتيجياً في الرؤية الإسرائيلية لدورها ووجودها في المنطقة على نسق 11 أيلول الذي شكل تحولا استراتيجيا في الرؤية الأميركية.
فلا نقاش إذاً بأنّ الدور الإيراني مَثّل حاجة أميركية، ولكن جوهر النقاش يكمن في انّ هذا الدور هدّد إحدى ثوابت واشنطن الأساسية في المنطقة وهي دولة إسرائيل، والسؤال هو: ما السبيل لتبديد الهاجس الإسرائيلي بإزالة التهديد الوجودي؟ وهل تكتفي تل أبيب بتعهُّد طهران بالعودة إلى ما قبل «طوفان الأقصى»، أم انها تريد ضمانات عملية لا كلامية؟
وإذا كانت واشنطن قد أخذت على عاتقها منع إيران من التحول إلى دولة نووية، فإن إسرائيل ستأخذ على عاتقها منع الدور الإيراني من تهديد وجودها، ولكن قدرة تل أبيب تقف عند حدود حماية نفسها من أذرع إيران، فيما المهدِّد الأساس لدورها يبقى بمنأى عن تقليم أظافره، ومن هنا حاجتها لواشنطن، فهل ستعتبر الأخيرة ان الدور الإيراني حقّق أهدافه الاستراتيجية وانه حان الوقت لإعادة النظر بهذا الدور من دون المَس بالنظام الإيراني الذي يستمر كحاجة توازن في المنطقة، إنما إعادة النظر في سياق سياسة المدّ والجزر؟
من الثابت انّ ارتدادات «طوفان الأقصى» ستتواصل بعد انتهاء الحرب وانّ مشهد ما قبلها سيختلف عن مشهد ما بعدها، ولكن هل الاختلاف سيصل إلى حدود إسقاط النظام الإيراني أم الاكتفاء بتغيير دوره بما يُفقده القدرة على تهديد وجود إسرائيل؟
يجب من دون شك انتظار انتهاء الحرب ليبنى على الشيء مقتضاه، لأن الحروب كفيلة بتغيير ما لا يمكن تصور تغييره، ومن الصعب الكلام عن استراتيجية جديدة للمنطقة قبل ان تضع الحرب أوزارها، مع الأخذ في الاعتبار ان الدور الإيراني شكّل حاجة أميركية، ولكن بعد ان اصطدمت هذه الحاجة بالثابتة الاستراتيجية الأميركية، اي إسرائيل، لم يَعد بإمكان طهران ان تواصل الدور نفسه.
وبين الثابتة الأميركية، وهي إسرائيل، والحاجة الأميركية، وهي إيران، تبقى الأولوية طبعاً لتل أبيب، خصوصاً ان الدور الإيراني أدى أغراضه الاستراتيجية وفي طليعتها تجسير العلاقة بين العرب وإسرائيل، ولكن ستبقى الصورة المستقبلية للمنطقة «مغبّشة» بانتظار انتهاء الحرب أولاً، وتحديد الإدارة الأميركية الجديدة رؤيتها للمنطقة ثانياً، وتحديد تل أبيب استراتيجية ما بعد الحرب ثالثاً. وبالتالي قبل تبلور هذه العناصر الثلاثة يصعب رسم معالم المنطقة ومنها لبنان.
وبعيداً عن العوامل غير المحسوبة من قبيل انزلاق الحرب إلى درجة إسقاط النظام الإيراني، فإنّ العوامل المحسوبة تتراوح بين حدّين: العودة إلى وضع ما قبل «طوفان الأقصى»، وهو مُستبعد كلياً باعتبار ان إسرائيل لن تقبل بأيّ وجود سياسي لحركة «حماس»، ولن تقبل بأيّ وجود عسكري لـ«حزب الله» على الحدود، ولن تقبل بأن يتعرّض وجودها وأمنها لأي تهديد في المستقبل، ما يعني ان المواجهة العسكرية والسياسية ستتواصل فصولاً.
والحدّ الآخر الإقرار الأميركي بالدور الإيراني السياسي في المنطقة لا العسكري والممتد من اليمن إلى لبنان، وتكون بذلك حرب 7 تشرين آخر الحروب مبدئياً، وهنا يمكن الكلام عن احتمالين: الأول رفض إيران التخلي عن مشروعها التوسعي المسلّح، وهذا أغلب الظن كَون علّة وجود هذا المشروع ترتبط بالسلاح، ما يعني عود على بدء من صراع يُبقي لبنان ساحة فوضى ونزاع. والاحتمال الثاني ان تستبدل إيران مشروعها العسكري، بفِعل الضغط الأميركي والإسرائيلي، بمشروع اقتصادي شبيه بمشروع المملكة العربية السعودية والذي يندرج في سياق الاستراتيجية الأميركية التي تشكّل أحد أبرز اهتمامات الولايات المتحدة لاحتواء الصين وعدم انفتاح السوق الصينية على السوق الأوربي والآسيوي، وبالتوازي مع المشروع الاقتصادي الإيراني الإقرار بنفوذها السياسي في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ما يعني تعميم النموذج الفدرالي العراقي على هذه الدول من خلال انتقالها من السعي إلى السيطرة الكاملة على هذه الدول، إلى السيطرة الجزئية، حيث من الصعب العودة إلى مرحلة ما قبل تمدُّد المشروع الإيراني.
ما حصل في 7 تشرين حرّكَ بشكل قوي وفعّال الستاتيكو الذي حكم المنطقة وتحكّم بها منذ أحداث 11 أيلول مروراً بإسقاط نظام الرئيس صدام حسين وصولاً إلى ما بعد حرب تموز 2006، ومن الصعوبة بمكان رسم معالم المنطقة ولبنان بعد انتهاء الحرب، ولكن الأكيد انّ القيادة الإيرانية ستضطر إلى إدخال تعديلات جوهرية على مشروعها التوسعي، ولبنان سيستفيد من هذا التحول، خصوصاً انّ أسوأ ما عرفه هذا البلد هو الستاتيكو الذي كان لطهران اليد الطولى في منع قيام دولته وحالت دون إرساء النظام الذي يَتناسَب مع طبيعته.
والفارق بين حرب تشرين وحرب تموز كبير جداً، لأن حرب العام 2006 ارتبطت حصراً بـ«حزب الله»، فيما حرب العام 2023 ستُدخل تغييرات على المشروع الإيراني برمّته ومن ضمنه الحزب. والكرة، بالنسبة لواشنطن، بيد طهران، فإمّا ان تتعاون مع الولايات المتحدة على المشروع الذي يحافظ على نفوذها السياسي ويفتح أمامها الآفاق الاقتصادية، وهذا ما تريده الولايات المتحدة سعياً لإرساء توازن عربي-فارسي وسني-شيعي، وإمّا ان تتمسّك بمشروعها العسكري التوسعي، فستكون واشنطن مضطرة عندذاك إلى تحجيم الدور الإيراني كونها ليست في وارد المفاضلة بين طهران وتل أبيب، باعتبار ان ما يهدِّد الأخيرة يهدِّد أميركا، وفي مطلق الحالات مصير لبنان بعد «طوفان الأقصى» سيكون أفضل بكثير مما كان عليه قبل هذا الطوفان.