IMLebanon

المفاوضات الاميركية ـ الايرانية شاقة وطويلة

 

أخيراً رفع الرئيس الاميركي دونالد ترامب راية الاستسلام، وبعد تصاعد الضغوط عليه، خصوصاً من اركان الحزب الجمهوري، باشر تطبيق الإجراءات التقليدية المعمول بها لانتقال السلطة الى خلفه.

لكن هذا لا يعني ابداً انّ ترامب سيكون مهادناً طوال الاسابيع الفاصلة عن موعد دخول الرئيس المنتخب جو بايدن الى البيت الابيض. ذلك أنّ ترامب المزهو بالتأكيد بنتيجة الاستطلاع التي اعطته تأييد نحو ثلثي ناخبيه، اي ما يقارب الـ50 مليون اميركي لإعادة ترشيح نفسه لمعركة 2024، يريد ترسيخ صورة الرئيس القوي في ذاكرة الاميركيين، تمهيداً لاستثمارها بعد 4 سنوات. وهذا ما يفتح باب التحوط من مفاجآت لترامب في الشرق الاوسط.

 

في المقابل، يغرق بايدن في توزيع المواقع الكبرى على رجال ادارته، وهو استعجل انجاز تعييناته، التي تشكّل حجر الأساس لسياسته الخارجية، ما يؤشر في وضوح الى انّ انطلاقة ولايته ستشهد ورشة خارجية ناشطة لن تتأثر بالورشة الداخلية التي ستشغله، لجهة اعادة توحيد الاميركيين واحتواء تداعيات الانقسام الحاد جراء الحملات الانتخابية العنيفة، اضافة الى ملف كورونا ومشكلات داخلية اخرى ملحّة.

 

في الواقع، ارسى بايدن المداميك الثلاثة التي ستحمل وزر سياسته الخارجية وهي: انطوني بلينكن في وزارة الخارجية، وجيك سوليفان للأمن القومي، وليندا توماس سفيرة لبلادها في الامم المتحدة.

 

وقد حصدت قيادات بايدن ثناء كثير من الخبراء في السياسة الخارجية، وكان الابرز للسفير السابق دينيس روس، صاحب الخبرة الكبيرة في الشرق الاوسط والذي قال: «لديك ثلاثة مسؤولين للسياسة الخارجية يعرفون جيداً ماذا سيفعلون. لديهم خبرة كبيرة في العمل معاً، وهذا التلاقي يتمتع بكفاية عالية واحتراف رفيع»، على حد تعبيره.

 

الواضح انّ تحدياً بين اثنين كبيرين ينتظر هذا الثلاثي: الصين وايران.

 

صحيح انّ بايدن يستعد للتراجع عن بعض ما قرّره سلفه، ومنه الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، الّا انّ للملف النووي طعماً آخر ومشروعاً اكبر.

 

بداية، فإنّ سوليفان كان له دور اساسي في المفاوضات التي ادّت الى توقيع الاتفاق النووي مع ايران عام 2015. ففي العام 2013 شكّل الرئيس السابق باراك اوباما وفداً أجرى مفاوضات سرية مع ايران تمهيداً للاتفاق النووي. الوفد الاميركي تشكّل يومها من وليام بيرنز، والذي كان نائب وزير الخارجية، وبونيت تالوار عضو مجلس الامن القومي في البيت الابيض ومستشار اوباما للملف الايراني، وجيك سوليفان مستشار الامن القومي لنائب الرئيس جو بايدن يومها.

 

واجتمع الوفد الاميركي مع الوفد الايراني سراً لخمس مرات على الاقل في سلطنة عمان، التي احترمت الطلب الايراني بعدم تصوير هذه الاجتماعات بتاتاً. وهذه الاجتماعات ادّت للتمهيد لولادة الاتفاق النووي عام 2015، وشارك بعدها سوليفان في اللقاءات الثنائية الاميركية ـ الايرانية المعلنة في جنيف.

 

أما وزير الخارجية المقبل انطوني بلينكن، فهو اول ديبلوماسي محترف يتولّى منصبه منذ لورانس ايغلبرغر ايام الرئيس جورج بوش الأب منذ ثلاثين عاماً.

 

وعلى غرار جورج بوش الأب، حين عمل جيمس بايكر عن قرب معه، فإنّ بلينكن عمل لأكثر من عقدين مع بايدن، ما منحهما تفاهماً وثقة متبادلة.

 

بلينكن حضر كل الاجتماعات المهمة في ادارة اوباما ولمدة ثماني سنوات. ولعب دوراً محورياً في عدد من الإنجازات الديبلوماسية بما فيها الاتفاق النووي واتفاقية باريس للمناخ، كذلك لعب دوراً رئيسياً في تأمين حشد التحالف الدولي لمواجهة «داعش» في العراق وسوريا.

 

والواضح، انّ السياسة الخارجية الاميركية ستعود الى الاسلوب التقليدي اي الارتكاز على علاقات دولية قوية، وهذا ما يريح اوروبا. ذلك انّ بلينكن يؤمن بتعددية القرار العالمي، ولكن تحت القيادة الاميركية، وهذه السياسة كان ينبذها ترامب ويعمل على نسفها من اساسها.

 

البعض يصف بلينكن بأنّه براغماتي وواقعي ويؤمن بقوة بلاده، لكن مع فارق انّه يعي جيداً حدود القوة. هو قريب من بايدن، لكن اسلوبه الشامل جعل منتقديه يأخذون عليه صعوبة التأكّد من وضوح معتقداته السياسية الاساسية، خصوصاً وانّ الشرق الاوسط تغيّر كثيراً خلال السنوات الاربع الاخيرة، وهو لن يعود ابداً كما كان. وبالتالي فإنّ العودة الى المسار السابق يجب ان لا يهمل المستجدات، وهو بالتحديد ما سيأخذه في الاعتبار الفريق الذي سيتولّى السياسة الخارجية خلال ولاية بايدن، وتحديداً في الملف الايراني، فهو سيأخذ كمنصة انطلاق الإضافات التي حققها دونالد ترامب خلال السنوات الماضية، وبالتالي لن تكون، بالنسبة الى هذا الفريق، عودة تلقائية او اوتوماتيكية الى الملف النووي السابق.

 

في المقابل، فإنّ ايران التي تستعد لهذه المرحلة، ستطلب بدورها تعديلات انطلاقاً من مستجدات السنوات الاربع الاخيرة.

 

في الاساس، تشهد الديبلوماسية الاميركية للمراس التفاوضي الصعب للايرانيين، ومع المستجدات السلبية التي حصلت خلال السنوات الماضية، لا بدّ من ان يكون السلوك التفاوضي الايراني المتوقع صعباً.

 

صحيح انّ الضغوط الاقتصادية انهكت المجتمع الايراني، وانّ طهران تتوق لرفع القيود والعقوبات عنها، الّا انّ ذلك لن يعوق الديبلوماسية الايرانية من سلوك درب متعرّج، خصوصا وأنّها تشعر بأنّها لا تزال تمتلك اوراق قوة خصوصاً في اليمن والخليج، وفي العراق وسوريا ولبنان.

 

رغم ذلك، فإنّ طهران تدرك انّها في حاجة للعودة الى الاتفاق في توقيت ما، ولكن بعد سلوك ممر صعب. فعلى سبيل المثال، ستتجّه طهران الى ابراز نقاط الضعف الاميركية كمقدمة للتفاوض. مثلاً ستنتظر حتى حزيران المقبل حين ستحصل الانتخابات الرئاسية. وستعمد الى ابراز الضعف والتراجع الكبيرين للتيار الاصلاحي الذي كان سنداً قوياً للاتفاق النووي عام 2015، وحيث تشير الترجيحات الى فوز مدوٍ سيحصل لمصلحة محمد باقر قاليباف المتشدّد، والذي شغل موقع نائب قائد الباسيج، وبعدها قائد القوات الجوية لحرس الثورة. اي انّه احد اقرب مساعدي قاسم سليماني، والرسالة هنا واضحة: نريد ثمناً لاغتيال سليماني.

 

كذلك ستطلب طهران ضمانات جدّية لعدم الانسحاب من الاتفاق مرة جديدة، خصوصاً مع احتمال عودة ترامب عام 2024.

 

واستتباعاً، يتوقع الايرانيون نزاعاً حيال الملف السوري، وربما اللبناني.

 

وهو ما يعني انّ هذه المفاوضات التي ستبدأ حتماً لن تكون نتائجها سريعة على الارجح. لا بل قد تطول بعض الشيء، وهنالك من لا يتوقعها قبل سنة من بدئها. كذلك ستتجنب، ولو من حيث الشكل، ان يكون تفاوضها مباشراً ومحصوراً بواشنطن فقط، بسبب اغتيال سليماني.

 

لذلك ستتمسك بإطار دول «الخمس زائداً واحداً»، اي بدور اكثر فعالية لأوروبا. وفي هذه النقطة قد تتقاطع طهران مع اسلوب بلينكن، الذي يؤمن بالتعاون مع الاوروبيين والاستعانة بهم في الشرق الاوسط.

 

ويُنقل عن بلينكن قوله، إنّه «لا يمكننا معالجة مشكلات العالم بمفردنا، فعلينا ان نعمل مع الدول الاخرى وان نتصرف بتواضع ولكن بثقة».

 

ووفق شخصية على علاقة جيدة ببلينكن، فإنّه سيعمل وبالتوازي مع فتح قنوات التفاوض مع ايران، على ايجاد الحلول لليمن وتخفيف الضغوط على الخليج. واسلوب بلينكن يشي ايضاً بإعطاء دعم واضح لدور فرنسي خصوصاً في لبنان، وهو ما يعني اعطاء دفع اميركي قوي لمبادرة الرئيس الفرنسي في لبنان.

 

لكن ايران تعمل في نهاية الامر لأن تلغي شروطها الشروط الاميركية لتعديل الاتفاق، اي الوصول لاحقاً لإعادة اقرار الاتفاق كما هو. لكن واشنطن ستكون مصممة على انتاج افكار جديدة حيال الصواريخ الايرانية البالستية وتنظيم خريطة النفوذ في المنطقة. لكن من الآن وحتى 20 كانون الثاني موعد تسلّم بايدن السلطة، فإنّ طهران تدرك انّ خطر ترامب لم ينته بعد، وأنّه يسعى الى نصب الأفخاخ امام خلفه، وأنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو يؤازره.

 

لذلك، عممت القيادة الايرانية على حلفائها في العراق وسوريا ولبنان، بعدم منح ترامب اعذاراً تسمح له بتنفيذ ضربات مجنونة قبل رحيله، وبالتالي عدم الانجرار الى ردود فعل عسكرية او امنية حيال اي استفزاز، وهذا ما يفسّر الغارات الجوية في سوريا.

 

وقد حمل قائد فيلق القدس اسماعيل قاآني هذه الرؤية الى الحلفاء الذين زارهم في لبنان وسوريا والعراق، ذلك انّ هنالك سعياً من جانب اسرائيل لتسخين الوضع مع ايران، لاستدراجها الى ردّ يستهدف مصالح اميركية، وبالتالي رفع سقف المواجهة والزام بايدن بالعودة من مسافة بعيدة.

 

أما في الخليج، فالوضع مختلف، وهو ما يسمح لإيران بإبراز مخالبها منذ الآن، وهذا ما يفسّر استهداف الحوثيين الاخير لمنشآت النفط. ولو انّه يجعل الطريق اقصر بين السعودية واسرائيل، ووفق ما نقلت صحيفة «اسرائيل هيوم»، فإنّ ولي العهد السعودي قال لنتنياهو خلال لقائه به، إنّ الرياض معنية بتشكيل جبهة موحّدة مع اسرائيل في كل ما يتعلق بإيران.

 

لكن المشكلة بالنسبة الى لبنان تبقى الاخطر. فالانهيار الاقتصادي والمالي بلغ حداً مرعباً، والاحتياطي المالي يكاد ينفد، والفقر بلغ حدوده القصوى، وهو ما يُترجم ازدياداً مخيفاً للسرقات والتعديات. ونُقل عن السفيرة الاميركية دوروثي شيا سؤالها بقلق، لدى لقائها المسؤولين اللبنانيين، حول طريقة معالجة السلطة هذا الواقع. ذلك انّ هنالك خشية اميركية من انفلات الوضع في الشارع وسقوط دماء، بسبب الفوضى والجوع وعجز العناصر الامنية عن ضمان الامن بسبب اوضاع عائلاتها ايضاً، وامام السلطة اللبنانية التي تراهن على الحلول الخارجية كثير من الوقت الضائع.

 

ولكن مع الاسف، فإنّ حسابات القوى السياسية هي حول حصصها ونفوذها ومكاسبها الذاتية، وليس حول وضع اللبنانيين وامنهم الاجتماعي والمعيشي.