IMLebanon

الفراغ يهدّد «الجمهورية»: بري لن يغادر عين التينة

بات الوصول إلى الفراغ قدراً متوقّعاً بعد حوالى شهرٍ من الآن، وجهود الأسابيع الماضية توّجت بالفشل. أما الرئيس نبيه بري وحلفاؤه، فشرعوا في وضع سيناريوات لما بعد ليل 19 ـــ 20 حزيران، وأوّلها عدم مغادرة برّي مقر الرئاسة الثانية في عين التينة

لم يكن اللقاء الذي جمع الرئيس نبيه برّي والوزير علي حسن خليل في عين التينة، ليل الأحد الماضي، بالرئيس سعد الحريري والنائب جورج عدوان، سوى لحظة العودة إلى «النقطة الصفر» في النقاش حول قانون الانتخاب. فتعديلات الحريري وعدوان على طرح بري، على الرغم من أجواء التفاؤل التي أشيعت قبل الزيارة، لم تأت بجديد، بل هي تكرار للتعديلات التي كان قد أدخلها الوزير جبران باسيل سابقاً على طرح برّي، حول تشكيل مجلس الشيوخ وإجراء الانتخابات النيابية على أساس النسبية في ستّ دوائر.

ويكفي سحب بري اقتراحه وعودة رئيس الجمهورية ميشال عون للدفاع عن «قانون التأهيل الطائفي» و«القانون الأرثوذكسي»، لتبيان عمق الأزمة المقبلة في تضارب الرؤى الواضح حول قانون الانتخاب المنتظر، بعد أن تُوِّجت جهود الأسابيع الماضية بالفشل واقتراب خطر الفراغ في المجلس النيابي بعد حوالى شهر من الآن.

فحتى المتفائلون أنفسهم بحتمية عدم الوصول إلى الفراغ ينتظرون أن يأتي الضغط في اللحظات الأخيرة بالوصول إلى التمديد للمجلس النيابي تحت سيف الخوف من الدخول في الفراغ، وأن عون قد يقبل بالتمديد حفاظاً على عهده، ما دام برّي لن يقبل بـ«الستين» وعون أيضاً. أمّا من يعرفون عون، فيقولون إن رئيس الجمهورية لن يكون لديه مانع في حصول الفراغ وأخذ الأزمة إلى مداها الأخير… ولو لم يكن هناك أفق واضح للحلّ.

ومع اشتداد الأزمة، وصعوبة الوصول إلى اتفاق في ربع الساعة الأخير على ما عجزت عنه القوى السياسية طوال السنوات السبع الماضية، بدأ مقرّبون من برّي وآخرون في فريق 8 آذار يرسمون احتمالات الأزمة المفتوحة، ما بعد ليل 19 ــ 20 حزيران المقبل.

في الأسابيع الماضية، جرت لقاءات «رفيعة المستوى» بين حزب الله وحركة أمل، ووضع الفريقان حلفاءهما في أجواء هذه اللقاءات، وما نتج منها من اتفاق على قيادة برّي دفّة المرحلة المقبلة، وبقاء حزب الله كخطّ «إطفائي» خلفي، لمواجهة الفراغ المحتمل في المجلس النيابي.

وعلى ما علمت «الأخبار»، فإن رئيس المجلس النيابي لن يترك قصر عين التينة، مقرّ الرئاسة الثانية، كما يجتهد دستوريون، لأن الفتوى الدستورية عند برّي جاهزة، وهي استمرار هيئة مكتب المجلس، ورئيسها، بتصريف الأعمال. ثانياً، لن تستطيع حكومة الرئيس سعد الحريري الاستمرار في تصريف الأعمال، إن كان عبر استقالة عددٍ كافٍ من الوزراء منها لإسقاط ميثاقيتها، أو عبر ضغوطٍ أخرى تحول دون ممارسة الوزارات دورها بشكلٍ طبيعي. وفي حال لم يجرِ التحرّك سريعاً من قبل رئاسة الجمهورية لاستنباط الحلول، فقد يتحوّل الفراغ في المجلس النيابي إلى فراغ كامل في الدولة اللبنانية، يدفع بالتشكيك في شرعية رئاسة الجمهورية نفسها، ما دام النظام اللبناني هو نظام برلماني قائم على شرعية المجلس النيابي الشعبية.

وتقول مصادر في حركة أمل إن «برّي وفريقه السياسي لم يتركا حلّاً منطقياً إلّا ولجآ إليه لتفادي الوصول إلى الخيارات الصعبة، ومن ضمنها الاقتراح الأخير، لتقابل كل إيجابية بالتشدّد وطرح أمور تعجيزية هدفها أوّلاً وأخيراً فرض قوانين طائفية تفرّغ النسبية من معناها، بعد أن جرى إقناع الجميع بالنسبية، وبعد أن طالب بها التيار الوطني الحرّ طوال السنوات الماضية».

قبل أشهرٍ من انتخابات رئاسة الجمهورية، كان برّي قد التقط مؤشّرات الظرف الإقليمي والدولي التي ستوصِل حتماً رئيس تكتّل التغيير والاصلاح ميشال عون حينها إلى سدّة الرئاسة. برّي يعرف عون جيّداً، ويدرك أن طموحات الرئيس الجديد تبدأ أوّلاً باسترداد صلاحيات خسرها موقع رئاسة الجمهورية في اتفاق الطائف، صلاحيات هي أصلاً واحدة من أسباب شعور فئات كبيرة من اللبنانيين بالتهميش، منذ تأسيس الكيان اللبناني.

وجهد بري في جلسات الحوار الوطني، قبل توقّفها نهاية الصيف الماضي، للاتفاق على مرحلة ما بعد الرئاسة ضمن ما سمّاها «السّلة»، تفادياً للوقوع في فخّ «التسرّع» في إجراء الانتخابات الرئاسية، والدخول لاحقاً في صراع قانون الانتخاب، وتالياً طموحات وأفكار العهد الجديد في تعديل اتفاق الطائف، تحت وطأة ظروف إقليمية ودولية ضاغطة.

غير أن جُرأة بري في جلسات الحوار، وإعادة طرحه إنشاء مجلس شيوخ تمهيداً لتحقيق كامل الاتفاق والانتقال بالنظام السياسي والمجلس النيابي من الطائفية إلى بوابة المدنية بأقل الخسائر الممكنة مقارنة مع الجوار اللبناني، قوبلتا حينها بالانقلاب على الحوار، كذلك تمّ تمييع العرض في عام 2013 بعد لقاء روما الشهير.

وعند احتدام الأزمة مؤخّراً، أخرج برّي «أرنبه» القديم ــ الجديد (من دون أن «يزرك» الوقت كما يوحي التيار الوطني الحرّ)، وهو اقتراح تشكيل مجلس الشيوخ، وضخّ فيه ما أمكن من المغريات عبر التنازل عن صلاحيات للمجلس النيابي، لطالما اعتبرتها أيضاً شريحة من اللبنانيين حقوقاً مكتسبة بعد عقود من التهميش.

ويمكن القول إن برّي أيضاً ذهب حدّ الجرأة في «الانقلاب الإيجابي» لمصلحة «حصّة المسيحيين» من داخل الطائف، مجتهداً في تفسير الدستور، ومانحاً مجلس الشيوخ المفترض حقّ تعديل الدستور ومقدّمته، وإعلان حالة الطوارئ، وكلّ ما يتعلّق بأمور قوانين الجنسية والأحوال الشخصية والمذهبية والتقسيمات الإدارية، إلى درجة أن الحريري وعدوان وجدا في طرح برّي فرصةً لاقتناصها، ربّما لن تتكرّر مع أي «رئيس مجلس نيابي شيعي» مستقبلاً. ولسحب الذرائع وطمأنة «الخائفين» على التناقص العددي، اجتهد برّي أيضاً في تفسير الدستور الذي يجزم بأن قيام مجلس الشيوخ يتم مع انتخاب مجلس نوّاب وطني لا طائفي وتشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، مانحاً نفسه حقّ التمسّك بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس نيابي لامذهبي، فيما كان نصّ الدستور واضحاً لناحية تشكيل مجلس وطني، من دون أن يعير المناصفة اهتماماً. كذلك تضمّن عرض برّي إجراء الانتخابات النيابية على أساس النسبية الكاملة في ستّ دوائر في المجلس اللامذهبي.

هذه المبادرة لم تُقابل بإدارة الظهر فحسب، بل بالنقض الكامل لروحية المرتجى من إنشاء مجلس الشيوخ. فلم يكتفِ الثلاثي الحريري ــ عدوان ــ باسيل بإدخال تعديلات جوهريّة على اقتراح برّي، مثل التمسّك برئاسة مسيحي لمجلس الشيوخ وانتزاع صلاحيات أساسية من مجلس النواب، مثل الموازنة العامة، بل ذهبت التعديلات إلى إجراء الانتخابات النيابية على أساس النسبية في دوائر صغرى تراعي التقسيمات المذهبية، وهو ما يناقض مبدأ المجلس الوطني أصلاً، ويفرّغ النسبية من مضمونها. كذلك لحظت التعديلات التمسّك بالتقسيمات المذهبية في المجلس النيابي، على ذات القواعد التي من المفترض أن ينشأ على أساسها مجلس الشيوخ. وبالتالي، بدل الخروج بمجلسين واحد وطني وآخر طائفي، تكون عندها النتيجة الوصول إلى مجلسين طائفيين مذهبيين، في قالب «إصلاحي»!

رفض رئيس المجلس النقاش في التعديلات المقترحة، طالما أنّه قدّم عرضه وكرّر أمام زوّاره أن عرضه إمّا يؤخذ كما هو أو لا يؤخذ، لأن أيّ تعديلٍ فيه يفرغه من مضمونه. مساء أمس، التزم برّي الصمت، مكتفياً بسحب اقتراحه الأخير، لكنّ مصادره تؤكّد أن «الرئيس لن يقدم على أيّ مبادرة أخرى»، منتظراً «أن يعي الآخرون خطورة ما نحن ذاهبون إليه، من دون أي تعويلٍ على تحوّلات الإقليم والخطط الأميركية الجديدة في المنطقة».