في الداخل ضجيج كثير. لكن لا أحد.. لا أحدَ ينتظرُ منهُ طحيناً، إذ كيف لمن كان سبباً في المشكلة والانهيار والإفلاس أن يكون سبباً في الحل. في بلد اللامعايير يكادُ حديثُ الاعتذار من عدمه يفوق أهمية تشكيل الحكومة بحدّ ذاتها، ويكاد استدعاء المحقق العدلي طارق البيطار لنواب ووزراء سابقين وقيادات عسكرية سابقة وحالية ورؤساء أجهزة، يتفوّق على ما يمكن أن يكشفه القرار الاتهامي في جريمة راح ضحيتها أكثر من مائتي روح، وستة آلاف مصاب، وثلاثمئة ألف متضرر جرّاء إهمال وتواطؤ وفجور وإجرام منظومة «كانت تعلم».
في الداخل ضجيج كثير. إذلال وفجور وجشع لا قعرَ له، أمام محطات الوقود والصيدليات والمستشفيات والأفران والمراكز التجارية والمدارس وكل شيء آخر.. وجائزة كبرى لمن يعرف ماذا يخفي التعميم 158 من مطبات وأحجيات ومنزلقات تغلّف السمّ بـ 400 دولار طازج، هل ثمة عاقل في لبنان يصدّق بأن رياض سلامة ومافيا المصارف سيردون جزءاً من ودائع الناس المحجوزة احتيالاً وتعسفاً؟!
السعودية متمسكةٌ بحزمها ضدّ دويلة الفساد والمليشيات والتهريب، وحاضرةٌ، حتى التوهّج، في الوَصل والتحاور، ولا صُدَفَ في سياسات المملكة، وعلى اللبنانيين فهمُ حيوياتها والبناء عليها
من الفاتيكان إلى بكركي
في مواجهة بؤس المشهد المتمدّد، حَدَثان يستحقان التوقف عندهما: اللقاء من أجل لبنان في الفاتيكان الذي دعا إليه البابا فرنسيس مطلع الشهر الجاري، ولقاء يعقد في بكركي يوم الخميس المقبل بحضور البطريرك الراعي والسفير السعودي في لبنان وليد بخاري، عنوانه ثقافيّ، لكن مضامينه ودلالاته أبعدُ من ذلك بكثير.
في موقف متوقّع وغير مُفاجيء، خاطب البابا فرنسيس، بحضور البطاركة جميعاً «كل من في يده السلطة» في لبنان لإيجاد «حلول عاجلة ومستقرة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية»، وإذّ ذكّر بأن «لا سلام بدون عدل» في إشارة لا تخفى دلالاتها، أعلنَ موقفه التاريخي «كفى استخداماً للبنان لمصالح ومكاسب خارجيّة.. يجب إعطاء اللبنانيين الفرصة ليكونوا بناة مستقبل أفضل وبدون تدخلات».
المؤسف أن في لبنان، وبدلاً من تلقي مواقف الحبر الأعظم جسراً لكسر حلقة الفراغ، هناك من راح يتهكم عليها، أو يحرّفها لمصالحه وحساباته السياسية! هكذا، في أزمنة الانهيار والتلاشي والتحولات الكبرى، أصواتٌ تنبش الماضي، وتستدعي التقسيم، وتستحضر الشعبويات، بدل العودة لخطاب الدولة والدستور والعيش الواحد كمدخل، ضروري ومطلوب من الفاتيكان والأسرة الدوليّة، لفكّ عزلة لبنان، ومساعدته على تخطي القعر الذي يرزح فيه على كل المستويات.
قبل أقل من سنة، في حاضرة الفاتيكان، عَرَضت مجموعةٌ تحملُ همّ لبنان ووجع اللبنانيين الخارجين للتوّ من صدمة تفجير 4 آب الكارثي، تفاصيل وخلفيات الاستلاب اللبناني العميق على أعلى دوار القرار، كان الموقف واضحاً بلا لَبس «لبنان ليس متروكًا.. اصبروا وثابروا».
ad
بخاري الديبلوماسيّة
توازياً، يشهد الصرح البطريركي في بكركي، يوم الخميس المقبل، احتفالية بصدور كتاب «علاقة البطريركيّة المارونية بالمملكة العربية السعودية» للأباتي أنطوان ضو الأنطوني حيث يحضر السفير بخاري إلى جانب البطريرك الراعي، والمناسبةُ مناسِبَةٌ للاضاءة على عدة نقاط:
أولاً: يصرّ وليد بخاري على توسيع شعاع ديبلوماسية المرايا المقعّرة والمحدّبة التي يعتمدها في آن معاً، حيث السعودية، وهو ممثلها في لبنان، متمسكةٌ بحزمها ضدّ دويلة الفساد والمليشيات والتهريب وخطف لبنان من عروبته وشرعيته، وحاضرةٌ، في المقابل، حتى التوهّج في الحواضر والدساكر والبوادي والملتقيات بالوصل والتراحم والتحاور. بخاري الذي ينتقل بسهولة من استحضار ترحالات أمين الريحاني وحَداثيات شكيب أرسلان إلى وجوديات مارتن هايدغر، ونقديات يورغن هابرماس، مُتخفّفاً من أثقال الصورة النمطية التي كان يصرّ سياسيو لبنان، محترفو بيع الكلام، على حصر الديبلوماسية السعودية فيها.. بهذا المعنى ثمّةَ حضور سعودي متجدّد، ولا صُدَفَ في السياسات السعودية، ويبقى على اللبنانيين فهمُ حيوياته والبناء عليها.
من إلياس الرابع إلى بشارة الراعي
ثانياً: هل من الضروري استحضار تاريخ العلاقة بين بكركي، بمرجعيتها الروحية والوطنية، والمملكة العربية السعودية، كبرى الدول الإسلامية والعربية والإقليمية؟
الواقع أن علاقات بكركي بالسعودية، بوصفها علاقات إسلامية – مسيحية، لطالما كانت وثيقة، ولم تنقطع حتى خلال الحرب الأهلية المندثرة. أول رجل دين مسيحي كبير زار السعودية هو البطريرك إلياس الرابع عام 1974، خلال مؤتمر القمة الإسلامية، أما أول بطريرك ماروني زارها فبشارة بطرس الراعي في 13 تشرين الثاني 2017 بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز بالتزامن مع إعلان السعودية لسياسات تحوّل عميقة وتاريخية.
منذ النصف الثاني من السبعينات، بدأت الأحاديث الخفية ثم العلنية عن النظام السوري بوصفه حامياً للأقليات المسيحية والشيعية والدرزية في سوريا ولبنان. وكما هو معلوم فإنّ الزعماء المسيحيين اللبنانيين عندما تضايقوا في الحرب الداخلية (1975 – 1977) انقسموا قسمين: قسم استغاث بحافظ الأسد، وقسم استغاث بإسرائيل. وتدخلت الدولتان في لبنان بهذه الحجة الكاذبة، أي منع تعدّي المسلمين والفلسطينيين على المسيحيين. وقد أنهى العربُ الحرب الداخلية بلبنان عام 1989 – 1990 باتفاق الطائف الذي أيده وباركه البطريرك صفير كمدخل منصف لإنهاء الحرب وإحداث التوازن المطلوب في إدارة الشأن الوطني. لكنّ (وفي وقت منعت الوصاية تطبيق الطائف) لم تنته مخاوف المسيحيين، وظلّ تيار يرفع شعار التقسيم والتخوين ، وآخر شعار الفيدرالية وآخر يعلن تمسكه بلبنان المستقلّ، ودوره الريادي، وعيشه الواحد، وهويته العربية حتى النهاية، كذلك دعمت السعودية نداء المطارنة الموارنة في العام 2000، وعملت بصمتٍ على تغطية القرار 1559 عربياً لتحرير لبنان من الهيمنة السورية.
هل تركت السعودية لبنان لتعود إليه؟
ثالثاً: من نافل القول أنه خلال فترة الهيمنة السورية، كان صوت المملكة مع النظام السوري لصالح المسيحيين في لبنان، وكانت قيادتها تكنّ تقديراً عالياً للبطريرك الكبير بطرس صفير، مع أن هناك فريقاً من المسيحيين، الرسميين والحزبيين وغيرهما، كان وما يزال يقول ويدافع عن تحالف الأقليات وتحالف المليشيات، ويعمل وينسّق مع وعند النظامين الإيراني والسوري، أهم راعيين للتحالف المدمّر. في مقابل فريق آخر يقول ويعلن بأن لا عيش إلاّ مع العرب والمسلمين عيشاً واحداً ودائماً. قبل نحو شهر، برزت خطايا فاحت من فم أحدهم، وكان برتبة وزير في حكومةٍ مستقيلة، وأساءت للبنان قبل السعودية، مع أن ما قيل، برأي كثيرين، لا يعكس سَقطة شخصيةً موتورة ممن يفترض به تمثيل مصالح لبنان ووجهه الحضاري مع العالم، بل نهجٌ لمنظومةٍ متكاملةٍ تعتمدُ العبثيّة والتضليل واللعب على الشعارات والعصبيات لخدمة أغراض خبيثة، وأجندات مشبوهة تناقض المصلحة الوطنية.
بهذا المعنى، لقاء بكركي الخميس، أساسهُ صون معنى لبنان الرسالة في العيش الواحد المسيحي – الإسلامي، أما ثالث هذا التواصل فهو الفاتيكان بعد الكلام التاريخي للبابا فرنسيس عن لبنان ومآسي شعبه، وكل ذلك إثباتٌ جديد بأن «لبنان ليس متروكًا.. وأن بعد الظلمة نور».