لم يتحرك الفاتيكان لدعوة رؤساء الكنائس المشرقية، الشرقية والغربية، إلى لقاء جامع في الأول من تموز الفائت، إلا حين وصلت إليه من المرجعية الأرمنية الأرثوذكسية الأعلى، تفاصيل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تترك تداعيات مباشرة على الأوضاع الاستشفائية والتربوية. ذهب بطاركة المشرق إلى روما، وعادوا وكأن شيئاً لم يكن، عدا عن رحلة الاستجمام التي اصطحب فيها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي فيها المروجين لمبادراته السياسة الفاشلة واللقاءات التي سيقوم بها التي ستنقل ملف لبنان إلى العالم! لم يكن الفاتيكان ليستنفر أجهزته لمواجهة الأزمة الحالية لو لم يكن مدركاً لخطورتها وضرورة وقف انهيارها.
لكن فعلياً، ماذا حصل بعد الاجتماع الذي كان يمكن أن يشكل محطة مفصلية؟
تتلطى القوى السياسية مجتمعة خلف مسألة سلاح حزب الله من أجل عدم مقاربة حقيقية للوضع الاقتصادي المأزوم، وتقف بكركي وراء كل من ينادي بوقف إطلاق الصواريخ وتنادي بالسلام، وتتناسى كل ما عدا ذلك. فرغم أخطاء الحملة التي تعرض لها الراعي، فإن العبرة الأساسية هي أن البطريرك الماروني، ومعه الطبقة السياسية والإعلامية، يغطي من دون مواربة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ أن بدأ إجراءاته التعسفية ضد اللبنانيين، بحجة الدفاع عن المركز الماروني الأول، ومعه رئيس جمعية المصارف سليم صفير الذي يتشارك معه في كل الجرائم التي ترتكب في حق اللبنانيين. وبذلك تكون بكركي أمام مسؤولية محاسبتها تماماً كما يفترض مساءلة كل القوى السياسية الأخرى، لأن ما يفعله سلامه وشركاؤه يصيب، عدا الواقع الاجتماعي والمالي والبنية الأساسية للبنانيين في حياتهم وطعامهم، القطاعين الأساسيين اللذين ينادي الفاتيكان بضرورة العمل على رعايتهما. والمساءلة تتعلق بعدم تلبيتها ما يرغب به الكرسي الرسولي حتى بالحد الأدنى من خلال استنفار الأجهزة والمؤسسات الكنسية المعنية، بدل استمرار حفلات العشاء، كي لا يتمادى الانهيار الذي سيتحول مع إجراءات مصرف لبنان أكثر خطراً، وينعكس على أهم قطاعين أساسيين.
لا تخلو أدبيات الكنيسة من التغني بالمدارس من روما إلى لبنان وكيف أطلق الموارنة حملة إنشاء المدارس منذ أن بدأوا تمركزهم في لبنان. ومنذ أكثر من سنتين والكلام الجدي في دوائر مارونية تحديداً يحذر من انهيار هذا القطاع، على وقع استشراف مسبق لارتفاع سعر الدولار.
كل ما فعلته الكنيسة أنها لا تزال متخلية عن أدنى واجباتها، ما عدا استعطاء المساعدات باسم الناس
لكن أحداً في المؤسسات المارونية الفاعلة لم يعر أذناً صاغية لكل التحذيرات، فلم تعلن خطة طوارئ تربوية لمواكبة الانهيار المقبل عليه قطاع المدارس والجامعات، وتلهى مجلس المطارنة الموارنة ومجلس البطاركة خلال الاجتماعات بالبحث في كيفية تناول القربان المقدس في أزمة كورونا، وفي إنشاء رهبانيات مصغرة وبيوت لراهبات معتزلات، ينظر الفاتيكان حالياً في إقفالها. وعدا عن الارتفاع السابق للدولار فإن أزمة المحروقات والإنترنت والكهرباء تساوي عملياً وقف العام الدراسي الذي يفترض أن يكون بعد فترة زمنية قصيرة، مع ما يستتبعه من وقف رواتب الأساتذة. والقضية لا تتعلق بسنة أو أشهر، بل بانهيار جيل تربوي كامل، يترك أثره لسنوات إلى الأمام. فأي أطباء وأي مهندسين وأي طلاب سيتخرجون في قطاع متروك منذ أكثر من سنتين وسيكون مهملاً أكثر في شكل غير مسبوق؟ وما نفع المبادرات التي يقوم بها رجال أعمال لتمويل أقساط محتاجين، إذا كانت المدارس ستنهار الواحدة تلو الأخرى، ما عدا تلك التي تتبع مؤسسات أوروبية أو أميركية وتقوم بعملية استنفار واسعة للبقاء على قيد الحياة أكثر وقت ممكن؟ ورغم كل المشهد المأسوي لم يحصل أي تحرك كنسي فاعل وشامل، واعياً للمخاطر الحقيقية التي يتعرض لها القطاع، ووضع خطط لإنقاذه والاستفادة فعلياً من المساعدات والأجهزة في بلاد الاغتراب والكنائس في أوروبا وأميركا.
ما يتداوله ذوو الاختصاص في التربية والصحة أن هذين القطاعين لن ينهضا قبل سنوات طويلة، في ظل الأزمات المتلاحقة التي ضربتهما. فهجرة الممرضين والأطباء ليست خبراً اقتصادياً عادياً، كما يحصل في المستشفيات التي تتبع في شكل مباشر المؤسسات الكنسية. فربطاً بين هجرة الأطباء والأساتذة والممرضين الكفوئين كيف يمكن لهذا القطاع أن يوازن بين الصحة الاستشفائية وأوضاع العاملين فيه، وكيف يمكن من الآن وصاعداً الاتكاء على نظام استشفائي متين وفاعل مع الهجرة وتراجع مستوى جيل جديد خارج من كمية أزمات متلاحقة؟ إضافة إلى أن هذه المستشفيات متعاقدة مثلاً مع جهات ضامنة بعضها كنسي ويتبع لمجلس البطاركة الكاثوليك، لكن مرضى هذه الفئات أصبحوا تحت رحمة الاستشفاء بأسعار خيالية ليس بمقدورهم جميعاً تأمينها، إذا كان أبسط علاج الأمراض السرطانية يحتاج إلى ما يناهز 70 مليون ليرة، ليصبح المريض عالقاً بين المستشفى والجهة الضامنة وكلاهما يشكو ارتفاع الأسعار ولا مرجعية كنسية يحتكمون إليها وتعالج كل هذه المشكلات.
والقطاع الصحي الذي يحاول الفاتيكان المساعدة لتأمين احتياجاته، قطاع متكامل من الاستشفاء إلى الأدوية إلى طب الأسنان والعيون وكل الحاجات البديهية التي ستجعل اللبنانيين عرضة لانهيار حياتهم ونظامهم الشخصي الصحي. كل ذلك سلة متكاملة، لا يمكن أن تتهاون بها المرجعيات الدينية التي تروج في الخارج أنها تعمل عليها، في حين أن قلة من المطارنة والأساقفة معدودة تعمل حقيقة على سد الحاجات المجتمعية، لكنهم غير قادرين على مواجهة أزمة مستفحلة في قطاعات كبرى. وهو الذي كان مطلوباً من الكنيسة بعد لقاء الفاتيكان، لكن كل ما فعلته الكنيسة أنها لا تزال متخلية عن أدنى واجباتها، ما عدا استعطاء المساعدات باسم الناس. أما ما طلبه الفاتيكان فأصبح في خبر كان.