Site icon IMLebanon

الفاتيكان… ولبنان

 

 

في سياق حملته الانتخابيّة، أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى وجود علاقة محبة بين فرنسا والشعب اللبناني. أثار هذا التصريح موجة تساؤلات لدى الكثيرين ممّن لا يستوعبون ملف العلاقات الخاصّة بين لبنان وفرنسا. هذا الأمر ذكّرني بتحقيق نشرته إحدى الصحف الفرنسيّة حول المؤثّرات الفاعلة في الرأي العام الفرنسي، وجاء فيه ما معناه: ان لبنان والشعب اللبناني هما من أهمّ العوامل المؤثرة في الوعيّ واللاوعيّ الفرنسي، بحيث يكون لوطن الأرز تأثير مهمّ في تحديد الخيارات الانتخابيّة لقسم لا يستهان به من مجموع الرأي العام الفرنسي. وأذكر ان التقرير أكدّ كون لبنان المؤثر الأول والأهم في الرأي العام الفرنسي، وذلك لظروف تاريخيّة: دينيّة وإنسانيّة وحضاريّة.

 

إذن، ما فعله الرئيس الفرنسي بالأمس في اشارته الى محبّته للبنان وإصراره على دعم لبنان والسعي لحل مشاكله، ليس أمراً جديداً بل هو تعبير عن وجود جهات مثقفة الى جانب الرئيس المرشح، تنصح وتطرح الأمور المؤثرة في الرأي العام الفرنسي كي تحشد الى جانبه في المعركة الرئاسية أكبر عدد من الفرنسيين. أمر أخير في هذه الاشارة التي كان لا بدّ منها، وهي ان التقرير الفرنسي لتحليل نتائج الانتخابات آنذاك، لا يشير فقط الى أن لبنان هو من العوامل المؤثرة في الانتخابات الرئاسية، بل يرى أن لبنان هو العامل الأهم في التأثير على الرأي العام الفرنسي في الانتخابات.

 

الفاتيكان… ولبنان

 

1 – على امتداد تاريخ المسيحيّة.. تاريخ لبنان، كان لموطن الأرز وللكرسي الرسولي علاقات خاصّة بين دولتين يجمعهما مصير مشترك ويواجهان تحدّيات مشتركة. وكانا على الدوام يسعيان لتجاوز الظروف والأحداث التي يتعرّضان لها سواء على صعيد الصراع الديني أو السياسي، وطوال هذه التجارب المرّة والصعبة، كان الفاتيكان حريصاً على تقديم أفضل الحلول للمسألة اللبنانية، وعلى الحرص الدائم للحفاظ على استقلال لبنان وسيادته، وهي سياسة فاتيكانيّة ثابتة منذ قيام لبنان: الدولة والكيان الى الآن.

 

2 – على ان الكثيرين من اللبنانييّن يرون ان مواقف أصحاب القداسة البابوات ليست هي نفسها، وهذا عائد بشكل أساسيّ الى المكونات النفسيّة والثقافيّة المختلفة بين البابوات وهو ما يؤثر على مقاربتهم لقضايا الكنيسة والمجتمع في مختلف بلدان العالم. لنأخذ مثلاً البابوات الثلاثة الأخيرين في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة. من زمن البابا يوحنا بولس الثاني بدءاً من أواخر السبعينات، مروراً بالبابا بنديكتوس السادس عشر (19/‏3/‏2005)، الذي تخلّى عن أسقفيّة روما كرأس للكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة في الحادي عشر من شباط 2013 واعتبر قراره واحداً من اجرأ القرارات في تاريخ الكنيسة وصولاً الى البابا الحالي البابا فرنسيس، وقد اختار لقبه ذاك بالعودة الى تاريخ الكنيسة وحياة القديس فرنسيس الأسيزي الايطالي بما يختزل الحياة بثلاثة: الفقر والصلاة والرحمة.

 

3 – يمكن اختزال شخصيّة كل من البابوات الثلاثة كما يلي:

 

أ‌- البابا يوحنا بولس الثاني هو رجل الكاريسما في الكنيسة (بولوني)

 

ب‌- البابا بنديكتوس السادس عشر هو رجل الفكر في الكنيسة (ألماني)

 

ج- البابا فرنسيس هو رجل الرحمة في الكنيسة (أرجنتيني)

 

وطبيعي ان تعكس شخصيّة البابوات ذاتها على مسار الكنيسة العام وقضايا المجتمعات والأمم، بما فيها القضية اللبنانيّة.

 

4 – تعبيراً عن إهتمامه بوضع لبنان واللبنانيين، دعا البابا يوحنا بولس الثاني الى عقد جمعيّة خاصّة للأساقفة من أجل لبنان (12/‏6/‏1991) وعيّن أعضاء الجمعيّة الخاصّة في الفاتيكان لمتابعة السينودس، وبينهم الكاردينال جوزف راتسينغر (Ratzinger) رئيس مجمع عقيدة الإيمان في الكنيسة والذي سيصبح البابا بنديكتوس. وصدر عن السينودس، كالعادة، ارشاد رسولي بعنوان «رجاء جديد للبنان» في (10/‏5/‏1997) وذلك في اثناء زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى لبنان. وقد أكّد البابا في جملة ما اكّد في الارشاد على أمرين أساسيين:

 

• لم يقصر السينودس اهتمامه على المسائل الداخلية للكنيسة الكاثوليكيّة في لبنان، بل كان الوطن كله حاضراً في البال، لأنّ مصير الكاثوليك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير لبنان وبدعوته المميزة (فقرة 6)

 

• ان التزام السلام من قبل الجميع، يقود الى مصالحة نهائيّة بين جميع اللبنانيين، والمصالحة هي نقطة انطلاق الرجاء لمستقبل جديد للبنان (فقرة 98)

 

5 – ما يميّز البابا فرنسيس في رؤيته الى القضية اللبنانية، هي أنها عنده قضيّة تختصر آلام الشعب المعذّب. الشعب الذي كثيراً ما يُترك ليواجه مصيره التاريخيّ. إنه البلد الذي يستجمع في الوقت عينه: آلام الخوف، وآلام الجوع، وآلام التهجير، وآلام الاحتلال.. في حين ان البابا فرنسيس يحرص دائماً وأبداً على الدفاع عن حقّ الشعوب بعدم تهجيرها من أرضها. وان يُقدّم لها كل سند ودعم كي تثبت على هذه الارض.

 

6 – ان زيارة البابا فرنسيس للبنان ليست مادة للاستغلال السياسي. ويفترض بالمعنيين التعاطي مع هذا الموضوع بالدّقة التي تفرضها المعاطاة مع أمور الفاتيكان عامة بما فيها من أصول ولياقات وتوقيت. فمن المؤكد ان البابا فرنسيس يودّ أن يزور لبنان كأولويّة أولى في سجل دول العالم، ولكنه يعرف سلفاً أنّ في لبنان جهات تريد ان تستثمر هذه الزيارة في عكس ما تهدف اليه من خير وسلام وأمان لكل اللبنانيين، وان تحوّلها الى مجرّد دعاية سياسية في الصراعات الداخليّة وهو هدف يناقض على طول الخط نفسيّة البابا وفكره وتاريخه النضالي والانساني والكنسي. ومن هنا يفهم الالتباس الواقع حالياً حول موضوع الزيارة!

 

7 – من المهم الاشارة الى ان لبنان يشكّل قاعدة أساسية في استراتيجيّة البابا فرنسيس الدولية، باعتباره التجسيد الفعلي والعملي والحي للحياة المشتركة المسيحية – الاسلامية، وبالتالي فلبنان هو التطبيق العملي لوثيقة الأخوّة الانسانية التي وقّعها البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب. ان الأخوّة المسيحية – الاسلاميّة كما يجسدها لبنان هي الصورة لعالم الغد، الذي يراه ويعمل له كل من قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الشيخ أحمد الطيّب ومن خلاله غرس الأسس الثابتة للعلاقة بين المسيحية.. والاسلام.