Site icon IMLebanon

الفاتيكان: تماسك الجبهة الداخلية بأهمية وقف الحرب

 

نقيب محرري الصحافة

ما من مرّة منذ إعلان «دولة لبنان الكبير» عام 1920، واستقلاله عن فرنسا المنتدبة عام 1943، إلّا وكان الفاتيكان ملاكاً حارساً لوطن الأرز، حريصاً على سيادته ووحدته، ومتمسّكاً بطبيعته التعدّدية في إطار العيش الواحد بين طوائفه التي يعتبرها نموذجاً وإطاراً يُقتدى بهما لإثبات إمكان تلاقي الأديان وحوارها وتفاعلها تحت كل سماء، وفي كل بلد يماثل تكوينه لبنان.

وكان الكرسي الرسولي يُسخّر كل إمكاناته وطاقاته للدفاع عن هذه النظرية، ومدّها بأسباب الحياة والاستمرار. ولا يمكن القفز فوق الدور البنّاء الذي اضطلع به بهدوء وبلا ضجيج في الحرب اللبنانية من خلال زيارات مكثفة كان يقوم بها مبعوثون للبابوات للقاء القيادات الروحية والسياسية إبان هذه الحرب في محاولة لتضييق شقة الخلافات، وتأكيد ضرورة أن لا تأخذ الصدامات الدامية طابعاً طائفياً، ولو صادف هؤلاء صعوبات ومعوّقات جعلت مهمّتهم أقرب إلى الفلاحة في البحر.

 

بعد الانتهاء من الحرب التي دامت زهاء 15 عاماً، شرع الكرسي الرسولي في التحضير لسينودوس خاص بلبنان بدأ العمل عليه عام 1995 وتُوّج في أيار 1997 بزيارة للبابا يوحنا بولس الثاني الذي أعلن الإرشاد الرسولي الذي ارتكز في صورة رئيسة على الجملة الشهيرة التي وردت في متنه: «إنّ لبنان هو أكثر من وطن… إنّه رسالة».

 

وقد بُنِيت كل أدبيات تلك المرحلة الوطنية والسياسية على هذه الجملة التي لم تبل جدّتها، وشكّلت في تلك المرحلة النقيض لنظرية صاموئيل هانتنغتون في كتابه «صراع الحضارات».

 

لكنّ الفاتيكان ومن منطلق استشعاره الخطر المحدق بمسيحيّي الشرق وتناقص أعدادهم في ضوء تنامي الأصوليات الدينية في المنطقة، ومغادرة كثيرين منهم إلى بلدان الهجرة الدائمة، أطلق البابا بنديكتوس السادس عشر سينودوساً من أجل مسيحيّي الشرق مستوحى من الإرشاد الرسولي: «رجاء جديد للبنان»، يشدّد فيه على الحضور المسيحي في هذا الشرق الذي يُعتبر مهد المسيحية والشاهد على بداياتها، والدور الذي أداه أبناء هذه الديانة في تطوير بلدانه ومجتمعاته، وتكوين ثقافة العيش الواحد بين أبنائه على رغم من التحدّيات الهائلة.

 

وارتكز الإرشاد الثاني على التجربة اللبنانية وعلى دور مسيحيّي لبنان المِحوَري. وللدلالة على محورية هذا الدور زار البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان في العام 2012 مقتفياً خطى سلفه البابا القديس في بعث رسالة قوية بأنّ لبنان وإن لم يكن وطناً مسيحياً خالصاً، فهو ركيزة الوجود المسيحي في هذا الشرق.

 

وقد جاءت زيارته في ظل زوال الاحتلال الإسرائيلي، وانسحاب الجيش السوري، لكن في أوضاع سياسية مضطربة، حيث الانقسام العمودي كان بادياً بوضوح. من دون إغفال الإشارة إلى رياح «الربيع العربي» الساخنة وبدء الأحداث الدامية في سوريا.

 

صحيحٌ أنّ الكنيسة في لبنان لم تُحسن الإفادة من الإرشاد الأول، وتثمره وطنياً وكنسياً، وتقبل على تطبيقه بروحية الملتزم بمضمونه، وأنّ الكنائس الشرقية لم تتعامل مع الإرشاد الثاني بما يقتضي من الاهتمام، إمّا عن عجز أو عدم رغبة، لكنّ الفاتيكان لم ييأس، بل لم يشأ أن يترك لبنان لقدره ومصيره، وكأنّه يقول للبنانيِّين عموماً والمسيحيِّين خصوصاً: «أعمل على إنقاذكم ولو رغماً عنكم».

 

ومن هذا المنطلق، وبحسب المعلومات المتوافرة، فإنّ الكرسي الرسولي يتحرّك على كل المستويات بلا ضجيج وإعلام من أجل التصدّي للكارثة التي حلّت بلبنان، وهو يشعر بقلق عميق وكبير إزاء الحرب التي تشنّ عليه، ويرى فيها كثير من الإجحاف والظلم، وأنّ التدمير الممنهج الذي يتعرّض له يدكّ المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها، وكأنّ ثمة مَن يريد تفخيخ الصيغة التعدّدية وتفجيرها باللبنانيِّين وتغيير هوية وطنهم، وطابعه الفريد كملتقى الأديان والرسالة، على اعتبار أنّ العيش الواحد في لبنان هو لصيق بحياة أبنائه اليومية وعاداتهم حيث قبول الآخر والفاعل معه من المسلمات البديهية. إنّه التلاقي العملي لا النظري الذي يتخطّى المدوّنات والوثائق وما تنطوي عليه من أدبيات إلى واقع معيوش.

وعلى هامش إعلان قداسة المسابكيين الثلاثة، شهدت حاضرة الفاتيكان حركة لافتة كان لولبها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبدالله بوحبيب، ورئيس الرابطة المارونية السفير خليل كرم مع المسؤولين الكبار في الحاضرة وأبرزهم أمين سرّ الدولة الكاردينال بييترو بارولين، ووزير خارجيتها المطران بول كالاغر، وقد لمس هؤلاء أنّ الكرسي الرسولي تدفع بكل ما أوتي لديبلوماسيتها من قدرة للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار والأعمال الحربية في لبنان، وتطبيق القرار الرقم 1701، واستعجال انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

 

وقد نبّه هؤلاء من مغبة الاعتياد على الشغور في القصر الجمهوري. وعلم أنّ التنسيق قائم بصورة مباشرة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل إيجاد آلاليات المؤدّية إلى هذا الغرض. وبطبيعة الحال، فإنّ الفاتيكان يؤيّد بقوة مؤتمر دعم لبنان الذي يُعقَد في 24 تشرين الأول في باريس.

 

وكذلك، فإنّ ديبلوماسية الكرسي الرسولي كلّفت اتصالاتها على غير مستوى وصعيد: عبر القاصد الرسولي في كل من واشنطن ونيويورك (حيث الأمم المتحدة). كما أنّها على تواصل دائم مع رئيس أساقفة نيويورك النافذ في دوائر القرار لدى القيادة الأميركية، لاستعجال حل سريع ينهي معاناة لبنان.

 

ديبلوماسية تعمل بصمت واجتهاد، ولا تدّخر جهداً إلّا وتبذله من أجل إنقاذ لبنان. لكن ما يضيم الفاتيكان هو استمرار التباعد بين اللبنانيّين، وانقسام المسيحيّين الذي يعرقل مساعيها، ويفسح للخارج أن يستمر في عبثه، ولإسرائيل أن تمارس عدوانها على هذا النحو غير المسبوق من القتل والتدمير.

 

وهو أكثر لوماً للمسيحيّين، وعلى الأخص الموارنة الذين لم يهتموا بتقديم المشتركات على الخلاف الذي يباعد بينهم لأسباب ثانوية غير رئيسية لا يمكن تبريرها أو فهمها.

إنّ الفاتيكان يسعى مع فرنسا ومجموعة من الدول الدائم التنسيق معها، إلى الآتي:

 

أ – وقف إطلاق النار فوراً من الجانبَين ووقف الأعمال الحربية.

ب – تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701، من دون أي اجتهاد حول مضمونه.

ج – عودة السكان إلى مدنهم وبلداتهم على جانبي الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.

 

د – تعزيز قوات «اليونيفيل» دوراً، عدداً وعتاداً، وزيادة عديد الجيش اللبناني وتجهيزه بالأسلحة التي تمكنه من أداء دوره.

 

أمّا في الشق السياسي، فينصبّ جهد الكرسي الرسولي على الآتي:

1 – إنتخاب رئيس جديد للجمهورية يجمع اللبنانيّين تحت مظلة الشرعية، ولا يشكّل تحدّياً لأحد.

2 – تلي هذه الخطوة تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على حل المواضيع الخلافية، وتعمل على استكمال تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني، ووضع ركائز سياسة دفاعية واضحة للبنان في مواجهة إسرائيل وتهديداتها.

 

ختاماً، إنّ الكرسي الرسولي يولي مرحلة ما بعد الحرب على لبنان، أهمية توازي اهتمامه بهذه الحرب ورغبته في إنهائها بسرعة. لكنّه لا يقلّل من شأن المخاوف المتصلة بالوضع الإنساني ومعاناة النازحين من أبناء الطائفة الشيعية الذين هدمت إسرائيل بيوتهم وشرّدتهم، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، من دون أن تلوح بشائر وقف وشيك للأعمال الحربية. وهو حريص على تماسك الجبهة اللبنانية الداخلية وعدم استباق نتائج الحرب قبل أن تضع أوزارها، وأن لا توظّف هذه النتائج ومحصّلتها للاستقواء على مكوّن لمصلحة مكوّن آخر، أو بفريق ضدّ فريق آخر.

فالفاتيكان يرى أنّ الأوان قد حان لخروج لبنان من قعر الهاوية، وأنّ هذه فرصته الأخيرة. والأمر يتعلّق أيضاً بوعي اللبنانيِّين لحجم المأساة لأنّهم يعيشون لحظة مصيرية وجودية.