قداسة البابا عمد في السنوات الماضية إلى الإعراب عن تخوفه من كثير من الظواهر التي تفشّت في أكثر من منطقة ودولة من مناطق ودول هذا العالم الواسع. آخر المخاوف نبّه إليها قداسته قبل أيام، تمثلت في تحسّبه لبوادر بروز هتلر جديد يعيد إلى الوجود تلك الملامح النازية التي طاولت البشرية كلها على مدى سنوات الحرب العالمية الثانية وتسببت بكل ذلك الموت والخراب والدمار والتراجع الحياتي والحضاري والإنمائي على مستوى العالم كله.
كل الدلائل المستقاة من تسلسل الأحداث الأخيرة تدل على أن قداسته قد عنى في تلميحاته، زعيما بالتحديد: الرئيس الأميركي ترامب، الذي حقق معجزة الفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية، إنما سريعا ما نتّجه إلى أغلب الظن، المتمثل بأن قداسته قد تجاوز في خشيته وتحسبه، الولايات المتحدة ومفاجآتها الرئاسية، وكثيرون ذهبوا في تفسيرهم لها إلى الوجهة الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، وربما لم تصل احتسابات قداسته إلى ما هو قائم في البلدان المختلفة وفي طليعتها كثير من البلدان العربية ديكتاتورية الطابع والممارسة والشذوذ الإنساني والديمقراطي عن كل تطورات العصر الحضارية، والتي سبق لقداسته أن طاولها في أكثر من نقد وأكثر من مأخذ علني، وفي طليعتها الوضع السوري الذي يتنافس على الإمساك بمقاليده أكثر من ديكتاتور وأكثر من هتلر سواء ومن داخل هذه الدولة وشعبها المعذب، أم من خارجها حيث حطت على أرضها رفوف النسور الضارية، التي طاولتها بنهش لحوم ابنائها وأرضهم وتطلعهم إلى عيش آمن وحياة طبيعية. إذن، إستقراء كوامن تصريحات قداسة البابا الأخيرة يدل على هذا التوجه الهتلري المستجد من خلال استيقاظ كوامن المجتمعات اليمينية المتطرفة، واستقراء المتابعين الإجتماعيين والسياسيين في بلادنا والبلدان المحايدة، يتناول حقيقة نشوء داعش، رمز الإرهاب المتشحة بسمات الدين الإسلامي زورا وبهتانا، ذلك أن ما هو ظاهر وما هو خفي يدل على أنها صنيعة الأنظمة الديكتاتورية والمذهبية في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، كما أنها الفكرة التي ابتدعتها بكل خبث وتقنية مشبوهة، كبريات الدول الغربية الإستخباراتية وفي طليعتها الولايات المتحدة والتي تمكنت من خلقها وتحريكها في توجهات وممارسات دامية على الأرض لا خدمة فيها ولا جنى ايجابي إلاّ لمصالح تلك الدول وتلك الدكتاتوريات وتلك الأنظمة المتحكمة برقاب وحياة ومصائر شعوب هذه المنطقة المنكوبة. ولا شك أن من يتحسب لهم ويتخوف منهم قداسة البابا وفي طليعتهم ترامب قد وضعت الأمم والشعوب والدول في دوامة من القلق والإضطراب تخوفا من واقع دولي متأزم قد يؤدي إلى ما يشبه الحروب العالمية التي طاولت هذا الكوكب منذ عشرات السنين، خاصة بعد أن بات هناك نوع مستجد من سباقات التسلح والإحتراب بالضغوط المخابراتية والإقتصادية وبروز قوى عظمى جديدة بدأت تنافس القوة الرئيسية القائمة في قوتها وقدرتها ومدى تمدّدها إلى مناطق النفوذ في العالم باسره.
وها هو ترامب، المتخوّف من سعيه إلى أن يكون في زاوية من زوايا فكره وممارساته، هتلر الزمن القائم، يتحسب بشدّه ومنذ الآن، للعملاق الصيني ولواحقه، ومن خروجه التدريجي والمدروس والفاعل إلى دنيا الزعامات الدولية والمنافسات التكنولوجية والإقتصادية، ونتساءل: ألم تكن أمثال هذه المنافسات هي أهم أسباب نشوء الأزمات الشعبية الداخلية وسوْقها إلى أجواء اليمين العنصري المتطرف والتي أدّت تطوراتها واحتقاناتها إلى اندلاع الحروب الصغرى والكبرى؟
ألم تكن مصادفة وجود زعيم متطرف ومتعصب وعنصري العقيدة والتوجهات على رأس تلك الإنقلابات التي طاولت بعض الشعوب على مدى تطوراتها التاريخية، فتكون الأوضاع العامة كلها، سهلة الخضوع إلى توجيهات وممارسات مثل هذا الزعيم الحاكم المتطرف.
بالرغم من دلائل كثيرة غير مطمئنة على مستوى القيادات والتوقعات، إلاّ ان كثيرين ما زالوا يؤمنون بأن روما من فوق غير روما من تحت، وأن حكما يعاني كل هذه الإنقسامات الحادة في التوجهات والممارسات كما هي الحال في الولايات المتحدة، لا بد أن يجبر على تكويعات كثيرة يصوّب بها الكثير من الخلل الواضح في مسيرته المقبلة… وهي لا شك من أصعب مسيرات الحكم والتحكّم، خاصة على مستوى المنافسات المستجدة التي بات العالم يخشى من صداماتها ومواجهاتها الحادة. بانتظار ترامب وسياسته المقبلة في سوريا، وبانتظاره في معالجات الإتفاق النووي الإيراني-الأميركي –الدولي ولواحقها من المواقف الأميركية تجاه إيران، وبانتظار علاقاته المقبلة مع روسيا ومع الصين، نبقى مع الخلاصة التي وصل إليها قداسة البابا عندما صرّح بأنه لا بد من إعطاء ترامب الوقت الكافي للحكم على قراراته وتصرفاته وحقيقة توجهاته الداخلية والخارجية، وإن غدا لناظره قريب.