IMLebanon

مأوية فرساي

 

في 28 يونيو – حزيران 1919، تمّ التوقيع على معاهدة فرساي – فرنسا، ويحتفل العالم – بل يستذكر – هذه المناسبة اليوم لمناسبة مرور مائة عام عليها.

كان الاعتقاد أنّ المعاهدة وضعت نظاماً عالمياً جديداً.. وأنّ هذا النظام سوف يطوي صفحة الحروب التي عانت منها الإنسانية – وخاصة أوروبا – ودفعت الكثير من الموت والدمار، غير أنّ العالم، شرقاً وغرباً، وجد نفسه بعد عقود قليلة، غارقاً في الوحول الدامية للحرب العالمية الثانية . فما الذي حدث؟

كان ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الأولى وزير التسليح العسكري في بريطانيا، ولذلك لم يشترك في مؤتمر فرساي، مع ذلك دعا إلى أمرين:

الأمر الأوّل مصالحة ألمانيا وإقامة علاقات ودية معها انطلاقاً من حفظ كرامتها بعد هزيمتها العسكرية.

أما الأمر الثاني فهو مقاومة الثورة البلشفية في روسيا وقطع الطريق أمام إمساكها بزمام السلطة، حتى لو تطلّب ذلك التدخل العسكري.

كان تبرير تشرشل للأمر الأول أنّه ما كان للحرب الفرنسية – البروسية (الألمانية)، التي نشبت بين عامي 1870 و1871، أنْ تتجدّد لو أنّ التسوية السياسية لتلك الحرب قامت على الاحترام المتبادل بين باريس وبرلين، فكان تجدّدها في الحرب العالمية الأولى 1914.

وكان تبرير تشرشل للتدخّل العسكري ضد الثورة البلشفية، منطلقاً من الاعتقاد بأن هذه الثورة سوف تشكّل خطراً على العالم الغربي (الأميركي – الأوروبي) لما ترفعه من شعارات تتناقض مع المبادئ العامة التي تقوم عليها مجتمعات هذا العالم.

غير أنّ اقتراحي تشرشل رُفضاً معاً.

جاء الرفض على التدخّل العسكري الغربي ضد الثورة البلشفية، وهي في مراحلها الأولية من واشنطن ولندن معاً. في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة تتمسّك بمبدأ الانعزال والعودة الى التقوقع على الداخل الأميركي برئاسة ودرو ويلسون.

يومها ردّ ويلسون على اقتراح تشرشل بقوله: «إنّنا لا نستطيع أن نتحمل المزيد من الدماء والمال!!».. وأيده في ذلك الرئيس البريطاني لويد جورج. وكانت النتيجة قيام الاتحاد السوفياتي وتمدده في شرق آسيا وفي شرق أوروبا.. وكان تطلعه الى المياه الدافئة في المتوسط وبحر العرب.

أما الاعتراض على استرضاء المانيا واحتوائها فقد جاء من باريس في الدرجة الأولى. فقد وجدت فرنسا في هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى فرصة للانتقام وذلك بإملاء شروط مذلة عليها. أدّت هذه الشروط بعد سنوات قليلة إلى ردّ فعل تمثّل في قيام النازية.. وظهور هتلر.. ومن ثم انفجار الحرب العالمية الثانية التي وصلت شراراتها الى مشارق العالم ومغاربه وشهدت أول قصف بالقنابل النووية (هيروشيما وناكازاكي).

من هنا، فإنّ مأوية فرساي تطرح علامة الاستفهام الكبرى: هل تعلّم العالم من دروس الحروب الماضية؟

من أهم هذه الدروس أنّ الحرب تولّد حرباً: من حرب 1870 إلى حرب 1914 إلى حرب 1940 إلى الحرب الكورية، فالحرب الفيتنامية، فالحرب البريطانية – الارجنتينية حول جزر فوكلاند، فالحروب العربية – الاسرائيلية .. المفتوحة على حروب مستقبلية بسبب التجاهل الاسرائيلي للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

بعد مائة عام من فرساي، لا تبدو قاعدة العلاقات الدولية تغيّرت كثيراً عمّا كانت عليه قبل فرساي.

صحيح أنّ قيام الاتحاد الأوروبي احتوى الصراع التاريخي بين المانيا وفرنسا، إلا أنّ فتيل الانفجار انتقل الى المسرح الاميركي – الروسي، حيث أبطلت واشنطن معاهدة الحد من إنتاج الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، كما انتقلت الى المسرح الصيني – الأميركي حيث تتعثّر واشنطن في التعامل مع خروج المارد الصيني من القمقم بعد طول انحباس، كذلك نفضت النازية الغبار عن نفسها في ألمانيا لتفرّخ حركات شعبوية متطرفة في العديد من الدول الأوروبية الأخرى.

وفي الشرق الأوسط، فإنّ الغطرسة الاسرائيلية في ممارسة الاحتلال والتوسّع والقمع العسكري تؤكد أنه حتى ضحايا الحرب العالمية الثانية لم يتعلموا أي درس من تلك الحرب الطاحنة.

تبقى الحقيقة التالية، وهي أنّ صناعة التاريخ ليست مثل كتابته!!