IMLebanon

لبنان المنتصر حدوده وطنية وليست إقليمية

المساحة التي حررها الجيش اللبناني في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع وشهداء الجيش الذين سقطوا في أرض المعركة دفاعاً عن سيادة لم نعهدها إلا مغتصبة، هما الحقيقتان اللبنانيتان الوحيدتان في هذه الجغرافيا التي لم تكن يوماً، ومنذ تأسيس الكيان، إلا مرتعاً لأنشطة «فوق الدولة» يرتكبها في وضح النهار أو تحت جنح الليل دول ومنظمات وأفراد، ويختبرون من خلالها فائض قوتهم وتسلطهم وطموحهم العابر للحدود، تحت أعين سلطة فازت بوطنٍ بالصدفة فآثرت الإنكفاء عن الحدود وسكان الحدود.

حقيقتا استعادة الأرض بالقتال والشهادة تُلزمان الدولة وللمرة الأولى بالتشبث بدورها بخلاف التراجع المتراكم الذي ارتضته، إبان الأحداث والإختراقات التي عاشتها الجرود إياها، والتي كرستها حدوداً إقليمية بل جزءاً من لعبة الأمم على أرض لبنان.

في العام 1958 كانت حدود لبنان حدوداً إقليمية ممراً للسلاح والمقاتلين للتّصدي لحلف بغداد، وأضحت في العام 1969 مع اتّفاق القاهرة حدود العجز العربي والحدود البديلة لدول الطوق كافة المسؤولة عن هزيمة 1967 بتشريعها دخول السلاح لمنظّمة التحرير الفلسطينية، وتحوّلت منذ العام 1975 حدوداً لتصفية الحسابات العربية مع ياسر عرفات، لتستباح بعدها السيادة اللبنانية مع دخول القوات السورية. وظيفة سوريا الإقليمية تجدّدت مراراً عبر الساحة اللبنانية، سواء بعد توقيع كامب دايفيد أو بإسقاط اتّفاق 17 أيار، أو كراعٍ إقليمي معطّل لاتّفاق الطائف، بمباركة أميركية بعد اشتراك سوريا في حرب الخليج إلى جانب التحالف الدولي. وربما تكون المرحلة التي أسقطت المفهوم السيادي للحدود هي مرحلة استتباع لبنان للنفوذ الإيراني العابر لسوريا والعراق، سواء عبر الجنوب اللبناني أو عبر التحاق حزب الله بالحروب والصراعات الإقليمية من سوريا وحتى دول الخليج العربي مروراً باليمن.

إنسحاب داعش الإنسيابي من الأراضي اللبنانية، ومن قبلها جبهة النصرة، نحو الأراضي السورية يبدو أنّه النموذج المعتمد بعد القرار الدولي بإنهاء المنظّمات المسلحة التي اعتُمدت أدوات للعبث بالأمن في دول المنطقة وإقصاء رُعاتها الإقليميين. المرحلة الجديدة تستوجب إنهاء المرحلة الحالية بكافة رموزها تمهيداً للدخول في مرحلة جديدة. إنّ القول أنّ إجراء المفاوضات في الداخل السوري مردّه إلى انكفاء قيادة داعش تحت وطأة ضربات الجيش لا يمكن أن يقارب إلا من قُبيل التساؤل، لماذا يشكّل الداخل السوري بقعة آمنة لداعش لتنكفىء إليها؟ أليس القلمون الغربي وكافة الأراضي السورية بقعة قتال أعلن فيها كلّ من النظام وحزب الله الحرب على التنظيم المذكور بالتزامن مع الجيش اللبناني؟ الجواب ههنا لا يمكن إلا أن يخدم روزنامة توزيع النفوذ في سوريا، وإلا فكيف يمكن تفسير السماح لمقاتلي داعش بالذهاب إلى دير الزور؟ النموذج عينه اعتُمد في تلعفر. يقول ضابط رفيع المستوى في الجيش العراقي، بعد تحرير تلعفر بمهلة أسبوع، «لم تواجه القوات المهاجمة مقاومة جادة خصوصاً أنّ قادة داعش انسحبوا من المدينة في اتّجاه الحدود السورية، ولم يُعرف مصير مسلحّي التنظيم».

تبدو محافظة دير الزور التي تضمّ الطريق الدولي الوحيد المتبقي بين بغداد والداخل السوري هي مركز الثقل الجديد واستراحة المحاربين، وتوقيت إدخالها ضمن روزنامة التسوية السورية قد نضجت ظروفه. ويبدو الإمساك بالحدود السورية وفقاً للشروط الأميركية الروسية التي طبّقت في الجنوب السوري على معبر التنف، مرشحة للتطبيق على معبر القائم / البوكمال. التوصيف الوظيفي الجديد والوحيد لدول المنطقة هو الإمساك بالحدود، ومن هنا يقدّم النظام السوري نفسه مرشّحاً وحيداً للقيام بهذه المهمة وفقاً للشروط المطلوبة، علّ ذلك يتمدد إلى الحدود اللبنانية السورية لعجز سواه عن الإمساك بها.

ما رمى إليه حزب الله ومن خلفه النظام في سوريا من خلال التسوية المبتورة في الجرود اللبنانية، نابع من عدم القدرة على تقبّل الجيش اللبناني ومن خلفه الدولة كلاعبٍ جديدٍ يقدّم نفسه قادراً على مسك حدوده والدفاع عنها بكفاءة. حجم الرفض لبزوغ حالة تتجاوز الصورة النمطية للجيش العاجز التي تسكن عقول اللبنانيين اقتضى وقف النار لقطع الطريق على منتصر يطل على الحدود فيحوّلها أو يحوّل جزءاً منها من حدود إقليمية إلى حدود وطنية لها هوية.

كذلك استوجب الموقف شطب هذا المنتصر ومنعه من الدخول إلى عقولٍ استلزم غسلها سنوات، فلم يكتفِ إعلام حزب الله ومنظّروه بالتقليل من أداء الجيش بل تناقل جمهورهم في المقاهي والبيوت روايات مبرمجة نسبت التضحيات إلى مقاتلي الحزب لقاء دور استعراضي قام به الجيش.

الجيش انتصر وحدود لبنان المنتصر وطنية وليست إقليمية…..

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات