انتصر الجيش اللبناني، وهذا الانتصار لا غبار عليه، وعاد عسكرنا جثامين شهداء، ربما علينا أن نعود بالذاكرة إلى سنوات الحرب الأهليّة، «عقليّة الثأر» التي تظهّرت بالأمس عند كثيرين مخيفة، هل الحديث عن الإبادة سهل إلى هذا الحد؟ أي نظرة سيكوّنها العالم عن جيشنا الذي حرص في مخيم نهر البارد على أرواح المدنيّين فأخرجهم سالمين، كيف يخطر للبعض أن عليه أن يبيد هؤلاء الداعشيّين بعائلاتهم ونسائهم وأطفالهم، هذا «شغل دواعش» لا شغل جيش، الجيش محكوم بقواعد الحروب التي تحرّم التصرّف بهذه الطريقة، ثمة حالة من عدم التوازن سيطرت على كثيرين كانوا يستدعون فيها جرائم ومجازر من أيام الحرب الأهليّة، وهذا مخيف جداً ويحتاج إلى «تقييم» باحثين اجتماعيين ونفسيين، ليحددوا لنا هل هي «فشة خلق» أم «شعور قد يترجم قتلاً»!!
بالأمس شعرت بأن المطالبين بتنفيذ مجزرة بداعش المنسحبة يشبهون كثيراً «الغوغاء المجرمين» الذين عميت عيونهم وقلوبهم وقتلوا لمجرد لذّة الثأر أو لذّة القتل، في شتاء نهاية العام 1975، في 6 كانون الأول عثر على أربعة شبان من حزب الكتائب مقتولين في سيارتهم في منطقة الفنار، أحد ما بالتأكيد خطّط لينتهي الأمر إلى مجزرة تربك وتحرج الشيخ بيار الجميل رئيس حزب الكتائب خلال لقاء جمعه بالرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد، وكما خطّطوا حدث، اندفعت ردة فعل مجنونة نازيّة إرهابيّة لم يشهد الشرق مثلها منذ الحروب الصليبية ربّـما، في منطقة المرفأ، قُتل أكثر من ثلاثة آلاف مواطن ليس لسبب إلا لكونه مسلم، مجزرة روى لي زوج ابنة عمتي مجزرة السبت، السبت الأسود وكيف نجا منها وبقي شاهد عيان عليها، شاهد كثيرين يقتلون أمامه، أحدهم وهو يرجو القاتل المسلّح أن لا يقتله، قال له: إقفز عن الجسر فلا أقتلك. وصدّق المسكين وقفز فعاجله برشق من رشاشه أرداه قبل أن يصل إلى الأرض!
ذات مرّة وفي سنوات الحرب الأهليّة وضع أحدهم سيارة مفخخة في نزلة السبيل في محيط منطقة مكتظّة، قام بركنها أمام كاراج تصليح وادعى أنه سيحضر شيئاً ويصلح العطل، للمفارقة جاء الشاب «زيكو» العامل في الكاراج وجلس على السيارة منتظراً عودة صاحبها الذي فرّ باتجاه منطقة السبيل ليتسنى له تفجيرها بأمان وعن بعد، لحظات وتحولّت المنطقة إلى جهنّم، وبعدما أحصوا القتلى ونقلوا الجرحى إلى المستشفيات وصلت أم زيكو كالمجانين لا هو بين القتلى ولا هو بين الجرحى، إبنها الذي كان يجلس على تلك السيارة تبخّر في الهواء، تركض خلف المسعفين تسأل لقيتو شغلة منو، تحوّلت حياتها كلّها إلى البحث عن إصبع لابنها حتى تدفنه، حتى تعرف أن له قبر.
بالتأكيد تشاهدون أهالي المفقودين خلال الحرب الأهليّة منذ إعلان اتفاق الطائف، السلطات تعرف بالتحليل المنطقي جزماً أنّ كثيرون منهم ماتوا سواء على يد أفرقاء لبنانيين أم في معتقلات النظام السوري، بعضهم مخطوف منذ أربعة عقود، فمن يستطيع أن يبلغ ذويه أنّه مات، الموت يعني جثّة، بدون جثّة من يصدّق أنّه مات! من يستطيع أن يقول لهؤلاء الأمهات وبعضهم مات في خيمة الانتظار، أو نظنّ جازمين أنّه وبعد أربعين عاماً مات في المعتقل، ولا تمتلك ما هو ملموساً يواسي فاجعة أم ولا يمنحها جسد ابنها أو «إصبع» منه ليوارى الثرى فتأتي وتبكي عند ما تبقّى من ابنها.
هذا كان حال المفاوض في هذه القضية اللواء عباس ابراهيم ـ والذي يستحق كلّ الشكر على جهوده ـ عندما أبلغ أن الجنود اللبنانيين قتلوا في شباط العام 2015، وأنّ قتلتهم قتلوا في الرّقة، والدليل على الموت هو جثّة صاحبها، للغاضبين نقول: أهالي الجنود الأسرى كانوا سيكونون طليعة عدم المصدقين، والمساءلين عن جثثهم، كانت الأمور لتتعقد بشكل مأساوي، كثير منا كان مقتنعاً بأنّ داعش قتلهم، ولكن من منّا كان ليجرؤ على التصريح بقناعته؟ أمام أم وأب وزوجة وأبناء وأملهم بأنّ أبناءهم عائدون من يستطع أن يفعل شيئاً؟
نظرة على العم حسين يوسف وإصراره على الأمل عسى تحليل الـ DNA يعطي نتيجة سلبية على جثّة ما، «الغريق بيتعلّق بقشّة»، والمحزن أن تحليل الـ DNA يأخذ وقتاً قد يلامس الشهر، وفي مقابل آباء وأمهات وزوجات وأبناء العسكريين الشهداء الثمانية، تبقى حكاية والد الشهيد الجندي عبّاس مدلج، هؤلاء أعيدت إليهم جثث أبناءهم، سيكون لهم قريباً مأوىً معروفاً في التراب، أما مدلج فما زال البحث مستمراً عن رفاته في عشرات الكيلومترات في الجرود الجرداء، كان الله في عون والده على ما ابتلاه.
المطلوب التوحّد حول الجيش اللبناني، والمطلوب أيضاً كثير من الوعي بحجم المأسآة الإنسانية التي غرقنا فيها منذ صباح الأحد الماضي، والمطلوب الكثير من عند السياسيين، خصوصاً هو الظهور التلفزيوني من خيمة الأحزان، وأن لا يتصدروا خيمة أهالي العسكريين يتاجرون بجروحهم وأحزانهم، وأن يلزم هؤلاء السياسيّون الصمت، و»حاج يكبّوا بالهوا حكي فاضي»، «إنزلوا وواسوا وكونوا إلى جانبهم بعيداً عن الكاميرات إخجلوا من أحزانهم فقط!