Site icon IMLebanon

انتصارُ الثَّورة السوريَّة يَضعُ قياداتها تحت تحدِّيات مَصيريَّة

 

أضافت الثورةُ السوريَّةُ إلى سِجلِّ الثَّوراتِ الشَّعبيَّةِ تجرُبَةً ناصِعَةً ومُشرِّفَةً لما حملته من دلالاتٍ هامَّة يُستفادُ منها في استقاءِ الكثيرِ من الدُّروسِ واستِخلاصِ العِبر، والاستفادةِ منها في مَعرضِ كفاحِ الشُّعوبِ الهادفِ للتَّخلُّصِ من جور الحُكامِ وفسادِ الأنظمَةِ الراديكاليَّةِ والدكتاتوريَّة، وهي من حيث قيمها وتطلُّعاتِها لا تقلُّ أهميَّةً عن المبادئ التي رسَّختها الثَّوراتُ الفرنسيَّةُ والأميركيَّةُ والبلشفيَّةُ… لقد قامت هذه الثَّورةُ في وجهِ حُكمٍ دكتاتوريٍّ جائرٍ تحكَّم بالسُّلطةِ لفترةٍ ناهزت نصف قرن من الزَّمن، مارس خلالها أبشعَ صورِ التَّنكيل والتَّعذيب، دفعَ خلالها الشَّعب السُّوري تضحيات جسام، ورغم ذلك حافظت هذه الثَّورةُ على توهُّجها دون انقطاعٍ منذ انطلاقتها عام 2011 إلى أن تمكَّنت من الإطاحةِ بالنِّظام الجائر، وقد تميَّزت برُقيِّ أدائ ثوَّارها وتضحياتهم من أجل الوصولِ إلى أهدافِهم النَّبيلة.

هذا الانتصارُ الباهرُ يضعُ قادةَ الثَّورةِ اليومَ أمام تحدِّياتٍ مَصيريَّة، تجعلُ نجاح الثَّورةِ رهنَ نجاعةِ المُقارباتِ التي سيعتمدونها في مُعالجَةِ المَسائلِ الوطنيَّةِ الجوهريَّةِ، والتي تَتطلَّبُ تبني حُلولٍ استثنائيَّةٍ جريئةٍ مَبنيَّةِ على بدائل واقِعيَّة، وهذا يُملي عليهم أن يدركوا أن مواجَهتَهُم مع النِّظامِ السَّابقِ لم تنتَهِ بعد، إذ عليهم التَّعامل مع مُخلفاتِه بدءًا بالشُّروخِ التي أحدثها بين مُختلفِ مُكوناتِ الشَّعب، وانتهاءً بإعادة ترميمِ الدَّولةِ المُتهالكَةِ على نحوٍ يحفظُ وحدتَها وتماسُكها وسيادتها على كاملِ تُرابها.

 

تلك التَّحدياتُ توجبُ على قادةِ الثَّورةِ تقييمَ الوضعِ الراهنِ لتجنُّبِ الأخطاءِ السَّابقة، وإعادةَ النَّظرِ بمُنطلقاتِها العَقائديَّةِ والإيديولوجِيَّةِ وفقَ منظارٍ وطنيٍّ جامعٍ وموحَّد، والإلتفافِ حولَ قيادَةٍ موحَّدةٍ تأخذُ على عاتقها إعادةَ ترتيبِ قائمَةِ الأهدافِ الإستراتيجيَّةِ والمَرحليَّةِ على ضوءِ المُستجدات والظُّروفِ السَّائدةِ دوليًّا وإقليميًّا ومَحلِّيًّا، وبما يراعي المَصالِحَ الوَطنيَّةِ العُليا، ومن ثمَّ وضعَها موضِعَ التَّنفيذِ وَفقَ مُخطَّطٍ تَنفيذي مُتكامِلٍ، يأخذُ بعين الاعتبارِ الإمكانات المُتاحة. ذلك أن الوصولَ إلى السُّلطةِ لا يُجسِّدُ الغايةَ التي يَنشدُها الشَّعبُ الذي دفع أثمانًا باهِظَة من أجلها، والتي تتمثَّلُ في استعادَته لحُريَّتِهِ وكرامتِهِ وتأمين مُقوماتِ العيشِ في ظلِّ دولةٍ مُتماسِكَةٍ عادلةٍ ومُزدهرَة.

 

هذه الثَّورةُ المُباركةُ حملت في طيَّاتها الكثيرَ من الدُّروسِ التي – يمكنُ استقاؤها من أدبيَّاتها، وهي تندرجُ ما بين عبرٍ وخلاصات، يمكن الإستفادَةِ منها، ومن أهمِّ العِبرِ: أن التَّغييرَ سنَّةٌ من سنُنِ المُجتمعاتِ البَشريَّة، ولا يحول دونه الإضطهادُ والقَهر، – وأن إرادةَ الشُّعوبِ لا تُقهَر، وأن الإكراه لا يَقضي على الثَّوراتِ بل يؤجِّجُها، وأن سقوطَ الأنظمَةِ القهريَّةِ مَسألةٌ حتميَّة، وأن العُنفَ لا يضمنُ للحُكَّام بقاءهم في السُّلطة، وأن القَهرَ والقَمعَ يولِّدانِ الكراهيَةِ ويُحفِّزان على الانتِقام؛ وأنه لا يُمكن لأيَّةِ قوى خارجيَّةٍ أن توفِّر الحِمايةَ الكافيَةَ للحُكَّامِ الجائرين أو تضمن بقاءَهم في مناصِبِهم إن لم يكن الشَّعب راضٍ عنهم، أو فيما لو افتقدوا إلى الحد الأدنى من المَشروعيَّة؛ وأن مَصيرَهم المُساءلةُ والعِقابُ مَهما حاولوا الإحتماء بأجهزةٍ قَضائيَّةٍ وعَسكريَّةٍ وأمنيَّةٍ فاسِدة. أمَّا الخلاصاتُ فتتمثَّلُ في أن هذه الثَّورة ستبقى نبراسًا تقتدي به باقي شعوبِ العالمِ في تحركاتِها التَّحرريَّةِ في وجهِ النُّظمِ الراديكاليَّة، كما رفضِها للعيشِ ضِمن قوالبَ سِاسِيَّةٍ باليَةٍ، لا تقدرُ على – الصُّمودِ في وجه موجاتِ التَّحولاتِ التَّغييريَّةِ النَّهضويَّة. تلك العبرُ والخلاصاتُ توجبُ على قادةَ الثَّورةِ السُّوريَّةِ المَجيدَةِ أن يُحسِنوا انتقاءَ الخياراتِ في مُقاربتِهِم للتَّحدِّياتِ الدَّاخليَّةِ والخارجيَّةِ الحالَّةِ والمُستقبليَّة

 

أولًا: أهم التَّحديات الدَّاخليَّة: تتمحورُ حولَ إدارَةِ التَّغيير الهادفِ لإقامةِ دولةٍ مَدنيَّةٍ ديمقراطيَّةٍ تقوم على التَّنوُّعِ والقُبولِ بالآخر، منها:

 

أ – إرساءُ الأمن: ويكون بالعملِ سريعًا على مُعالجةِ المَظاهِرِ المُسلَّحَة، كما ظاهرةِ الأسلحةِ المُتفلِّتة، ومنعِ التَّعديَّاتِ على الأشخاص والأملاك العامَّةِ والخاصَّة، ومُكافَحَةِ مُختلفِ الظَّواهرِ الإجرامِيَّة.

ب – الحفاظُ على وحدة الأراضي السُّوريَّة: ويكون بإقامَةِ حوارٍ وطني شفاف ومنفتح، يؤسِّسَ لمُشاركةٍ حقيقيَّةٍ في إدارةِ شؤون الدَّولة، وتغليب المَصلحةِ الوطنيَّةِ على أيَّةِ مصالِحَ فئويَّة، وانصهار مختلف المكونات ببوتقةٍ وطنيَّةٍ جامعة، والتَّخلُّصِ من الارتباطاتِ الخارجيَّة وتجييرها لخدمةِ مشروع الدَّولةِ الموحَّدة.

ج – تحقيقُ مُصالَحَةٍ وطنيَّةٍ شاملة: ويكون بتعزيز التَّماسك الاجتماعي، وتجنُّب الإنشقاقات، وتبني مقارباتٍ منهجيَّةٍ تَشاركيَّةٍ تكفلُ مُساهمةَ مُختلفِ المُكونات الوطنيَّةِ في إدارةِ شؤون الدَّولة، وتكريس ثقافة التَّسامُحِ المبنيَّةِ على المُكاشفة والمُصارحة، والإبتعادِ عن المُقارباتِ التَّهميشيَّةِ القائمةِ على التَّفرُّدِ أو الإستفراد، الأمرُ الذي يشكِّلُ ضمانةً لجميعِ المواطنين تكفلُ ممارستهم لحقوقهم وواجباتهم على قدرٍ المُساواة.

د – إعدادُ دستورٍ عصري للدَّولة، يراعي خُصوصيَّة مختلف المُكونات الوطنيَّة، وينظِّمُ سُلُطاتِ الدَّولةِ وفق أُسُسٍ ديمقراطِيَّة، تضمنُ الفَصلَ ما بين السُّلطاتِ الدُّستورِيَّة (تشريعيَّة، تنفيذيَّة وقضائيَّة)، ويعزِّزُ التَّعاون في ما بينها، ويكفلُ ضمانَ الحُريَّاتِ وحِمايةِ الأفراد، ويمكِّنهم من مُمارستهم حُقوقِهِم وواجباتهم في إطار القوانين النَّافذة.

هـ – إجراء انتخاباتِ تشريعيَّةِ وفق قانون يقوم على النِّسبيَّة، يضمنُ حُسن تمثيل مُختلف المُكونات الوطنيَّة في النَّدوةِ البرلمانيَّة.

ز – إجراءُ انتخاباتٍ رئاسيَّة، وفق الآلياتِ الدُّستوريَّة تقوم على انتخاب الرئيس مُباشَرةً من الشَّعب، بما يكفلُ وصول رئيسٍ يحظى بأكبر نسبَةٍ من التَّأييد الشَّعبي، بحيثُ يفوزُ من يحظى بثلثي الأَصواتِ المُقترِعةِ في دورةِ الإقتراع الأولى، أو بغالبيَّةٍ مُطلقةِ في الدَّوراتِ التَّاليَة.

ح – تشكيلُ حكومةٍ وطنيَّة، وفق الآليات الدُّستوريَّة، تحظى بثقة المَجلس النيابي، تنكبُ فورًا لمُمارسَةِ مَهامها الدُّستوريَّة، والتَّعامل مع الإستِحقاقاتِ والمُستجدات، والتَّصدي للأزماتِ الحاليَّةِ والمُستقبليَّة.

ط – إعادة بناء القطاع العام، بما في ذلك الأجهزة العسكريَّة والأمنيَّة، وفق مَعايير وطنيَّةٍ خاصة، مبنيَّة على معايير الكفاءة والنَّزاهة، وتنقيَةِ كوادِرِه من الفاسدين.

ي – إعادةُ تشكيل الجهاز القضائي على نحو يكفلُ تحقيقَ عدالة شاملةٍ ومُتجرِّدة، ينظُرُ بقضاياهم قضاةٌ ومَحاكمُ متخصِّصة، ترعى مُلاحَقتَهم وفقَ أصولٍ قانونيَّةٍ تضمنُ للمُتقاضين حقوقهم عبرَ مُحاكماتٍ نزيهةٍ وغيرِ مُنحازة.

ك –  تشكيلُ لجنةِ تحقيقٍ مركزيَّةِ تُعنى بالتَّحقيق في الجرائم المُرتكبةِ من كبار المُسؤولين في النِّظام السَّابق، والتي تندرج في إطار انتهاكاتٍ فاضحةٍ لحُقوقِ الانسان، كأعمال القتل والتَّعذيب والحِرمان من الحُريَّةِ والحُقوقِ الشَّخصيَّة، وأخرى فرعيَّةٍ تُعنى بالتَّحقيقِ في مُختلفِ الجرائم المُشار إليها، والمرتكبةِ من قبل أتباعِ وشبيحةِ النِّظام السَّابق.

ص – التَّصدي لمشكلة الهِجرة والنُّزوح القَسري اللذين تعرض لهما الشَّعب السُّوري نتيجةَ الإضطِهادِ السِّياسي والقَمع الممنهجِ، وذلك بتوفيرِ الضَّماناتِ الكافيَةِ للراغبين في العودةِ ومساعدتهم على مواجهةِ مُتطلباتِهِم الحياتيَّة.

ثانيًا: أهم التَّحدياتُ الخارجيَّة: لا تقِلُّ التَّحدياتُ الخارجيَّةُ أهميَّةً عن التَّحدياتِ الدَّاخليَّة، ونذكر منها:

أ – استعادةُ سوريا لدورها الطبيعي على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّة، كعضوٍ فاعلٍ في هيئة الأمم المتَّحدة وجامعة الدُّول العربيَّة، وعدمِ الإنخراط في مَحاورٍ إقليميَّةٍ تتعارضُ مع المَصالِحِ العربيَّةِ المُشتركَةِ أو مع تَطلعاتِ الشَّعب السوري.

ب – صونُ السِّيادَةِ الوطنيَّةِ السُّوريَّةِ من خلالِ الإلتزام بالقرارات الدَّوليَّةِ النَّافذة، وبخاصَّة تلك التي تكفلُ وحدة وسلامةِ الأراضي السُّوريَّة، وسيادةِ الدَّولةِ على كامل إقليمها.

ج – إعادةُ النَّظر في التَّوجهاتِ الخارجيَّة والإقليميَّة على نحوٍ يحفظُ لسوريا مَكانتها ودورها الفاعل على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ بما يتوافق مع مَصالِحَها، وبناءِ علاقاتِها الثنائيَّة على مبدأ الإحترام المُتبادل واحترامِ سيادةِ كُلِّ دولةٍ على إقليمها، بما يجنِّبُها أيةَ تَدخُّلات خارجِيَّةٍ، ويُعفيها من تبعاتِ التَّدخُّلِ في شؤون دُول أُخرى.

د – إخراجُ سوريا من العُزلة التي وضعها بها النِّظام السَّابق، وانفتاحِها على العالم الخارجي، وذلك بتوطيد علاقاتها مع مُختلف الدُّول، بما يمكِّنُها من لعبِ دورٍ فاعلٍ لجهةِ الحِفاظِ على وحدةِ الصَّف العربي، والدِّفاعِ عن المَصالح العربيَّة المُشتركة، ودعمِ القضيَّةِ الفلسطينيَّة.

د – إعادةُ النَّظرِ بعلاقاتِ سوريا بأشقائها العرب وبلبنان على وجه الخُصوص، وإسهامِها في لملمةِ الشَّملِ العربي، وهذا يتطلَّبُ إعادةَ صياغةِ الاتفاقيَّاتِ الثنائيَّة مع لبنان بما يضمن مَصالِحَ الدَولتين الشَّقيقتين ويراعي اهتماماتهما المُشتركة.

هـ – إعارةُ الإهتمامِ للمَخاطر الخارجيَّة، من خلال بلورةِ موقفٍ صريحٍ وواضِحٍ تجاه العدو الإسرائيلي، على نحو يضمنُ استعادةَ كاملِ الأراضي السُّوريَّةِ المُحتلَّة، ومنعَ العدو من ارتكابِ أيَّةِ انتهاكات جديدة.

و – إعادةُ النَّظرِ بالعلاقَةِ مع النِّظام الإيراني وفق الأسس التي ترعى العلاقات بين الدُّول، وإن اقتضى الأمرُ إعادةَ النَّظر بالإتفاقيَّاتِ الثنائيَّةِ التي أُبرمت في ظلِّ حُكم النِّظام السَّابق. وإجراء مفاوضاتٍ مُباشرة تضمن ملاحقة المسؤولين الإيرانيين وضبَّاط الحرس الثوري الإيراني الذين انخرطوا في ارتكاباتٍ إجراميَّة في مَعرضِ دفاعهم عن النِّظام، ودفعِ التَّعويضاتِ العادلةِ عمَّا لحقَ بسوريا وشَعبها من مَضار، ناتجةٍ عن التَّدخلاتِ الخارجَةِ عن الأصول والأعرافِ الدَّوليَّة، وغلَّ الإحتكامُ إلى محكمتي العدل الدَّوليَّةِ والمحكمةِ الجنائيَّة الدَّوليَّة.

ونخلصُ من كلِّ ذلك للقولِ أن قادةَ الثَّورة مدعوون لبلورة رؤيَةٍ مُتكاملةٍ لمُقاربة التَّحدياتِ المُستقبليَّة، لتجنُّبِ التَّقسيمِ وضمان سلاسةِ التَّحولِ الديمقراطي.