كم من مرّة في اليوم تَنتابنا رغبة جامحة بتكسير جهاز التلفزيون وتحطيمه ورَميه من الطابق السابع حتى يتفتّت ويتناثَر على إسفلت أنصَع من سواد الأخبار التي تتقاذفها المحطات ليل نهار… كم من مرّة في اليوم نقف على الشبابيك ننتظر بيك أب «الحديد عتيق للبيع» حتى نقدّم له التلفزيون بلا مقابل ونرتاح من صور القتلى وأشلاء الأطفال المكدّسة في صالوناتنا غصباً عنّا… وفي كلّ مرّة نتريّث ونعود عن قرارنا بعدما نَتفركَش ببرنامج ترفيهي غير مُسترخص بابتساماتنا وحلقة حوارية تضيف معلومة إلى رفوف ثقافتنا الفارغة، أو برنامج مواهب مثل «The Voice Kids» يذكّرنا أن ليس الله وحده من يصنع دائماً المعجزات، بل أصوات هؤلاء الأطفال التي يمكن أن تعيد البصر إلى عيوننا المَعميّة بالقباحة، أو تعيد إحياء اهتمامنا المُستشهِد قنصاً من خلف متاريس المضاربات ونسَب المشاهدات.
ليس برنامج «The Voice Kids» مجرّد مساحة ترفيهية وإنما مساحة صلاة، فكلّ خطيئة نرتكبها بمشاهدتنا صورة طفل مقتول أو جائع أو بردان أو غاف وحيد على رصيف مزيّن بالردم، نتوب عنها بسماعنا الأصوات الصادحة خلف الكراسي الحمراء، والتي تزيد إيماننا بمستقبل ستزور مسارحه قريباً مواهب تحمل تحت أجنحتها جمال هذا الشرق وقدسيته.
بعد 5 حلقات من الموسم الثاني ومرور عشرات الأصوات البريئة، لا تزال مرحلة «الصوت وبَس» في منتصفها، ولكنها كانت زاخرة بالمواهب التي تَعِد بموسم دسم. هذا ولم نكتشف ماذا تخبّئ لنا الحلقات الباقية.
أصوات عادية، وأصوات جميلة، وأخرى ساحرة أخذتنا إلى عالم الكبار الذين يُتقنون فنون التعريب والتطريب. أسماء كثيرة، كلّها تستأهل الفرصة، ولكن بعض هؤلاء الصغار استطاع أن يتعملَق على مشاعرنا واهتمامنا وانبهارنا بدقيقتين أو أقلّ ومن الأغنية الأولى، مثل أشرقت أحمد التي غنّت «أمّا براوة» وذكّرتنا من خلال صوتها وحركة يدها بأسماء كبيرة وقفت على المسارح، ويائيل قاسم الذي قدّم «كده يا قلبي» من دون موسيقى وإيقاع فسرقَ الإعجاب من آذاننا بسلاسة صوته، ويمان قصار الذي أدّى «جاءت معذّبتي» وأبهَر كلّ من سمعه بخامة صوته الفريدة، وكذلك حمزة لبيض الذي أدهَش لجنة التحكيم والمشاهدين بغنائه القدود الحلبية بأغنية «مالك يا حلوة»، والجميل بضحكته وصوته محمد البندي الذي غنّى «غرق الغرقان» وأبحَر بنا على متن صوته الممّيز بعيداً من الفن المُستهلَك.
وإذا كانت أصوات الأطفال المشاركين جميلة، فإنّ ما يزيدها تميّزاً وقدرة على شدّ المشاهد هو أداء لجنة التحكيم، التي لا يحاول أي فرد منها شراء نجوميته بأموال البراءة المتعمشقة على المايكروفون، وكأنما البرنامج يُجرّد النجوم من نجوميتهم ويفرض الأطفال عليهم أن يكونوا أشخاصاً عاديين يتعاملون بقدراتهم الاجتماعية الانسانية وليس بجبروت النجومية.
إذا ظلمنا طفلاً أو قسَونا على طفلة، تذكّرنا نانسي عجرم الأم أنّ جميع المشاركين يستحقون الحب غير المشروط. وإذا تسرّعنا في حكمنا على صوت جميل ولم نَمنحه حقّه، يضغط كاظم الساهر الأب على الزرّ الأحمر فيستدير ليغمر الأطفال بحِنيّته وحكمته ويملأ قلوبهم بالأمل.
وتامر حسني الأخ الأكبر موجود بعفويته وروحه الشابّة ليرقص ويغنّي ويبتسم حتى لا تخرج أي طفلة أو طفل من مسرح البرنامج وفي قلبه خوف أو ندم… وتثبت لجنة التحكيم في كلّ حلقة أنه إذا كان المشتركون والمشتركات يمتلكون موهبة الغناء، فإنّ نجوم التحكيم يمتلكون موهبة التفاعل مثل الأطفال… ببراءة تضمن نجاح الخَلطة الترفيهية.
وفي كلّ حلقة، ننظر إلى عيون الأطفال اللامعة على الشاشات، والتي تبحث عن الأمان في عالم الكبار الذين باتوا يَمتهنون القباحة في زمن الكفر… ننظر إلى هذه العيون ونتساءل إذا كنّا فعلاً مؤتمنين على احتضان هذه المواهب اليافعة؟ وإذا كنّا حقيقة مخَوّلين حمايتها وقيادتها إلى عالم الكبار؟