لا شك في أنّ مشاركة اللبنانيين المنتشرين في الإستحقاق النيابي، تطور مهم في العملية الانتخابية على طريق استقامة ممارسة هذا الحق الدستوري وصونه، وإن شابه كثير من الشوائب التي يفترض معالجتها في الدورات المقبلة.
لكن مجرد إفساح المجال أمام المغتربين ليدلوا بأصواتهم في أماكن إقامتهم في الاغتراب، هو خطوة إلى الأمام قد تساهم في تحسين الأداء الانتخابي وتنقيحه وتنقيته.
الأهم من ذلك، هو تلك الصورة «النظيفة» التي تحاول قوى السلطة تقديمها الى المجتمع الغربي، وتحديداً الأوروبي والأميركي، حول المشهد الانتخابي الذي حصل تحت أنظار هذه الدول لتقنع هذه العواصم بأنّها تتمتع بالكفاية لإدارة العملية الانتخابية، ولو أنّ علامات التشكيك لاحقت الحقائب الديبلوماسية التي حملت مغلفات اللوائح المطبوعة سلفاً من مراكز الاقتراع إلى مصرف لبنان.
الأكيد أنّ السلطة حاولت بالمقدار المستطاع نفض الاتهامات التي لاحقتها طوال الفترة الماضية حول استخدام النفوذ وممارسة التدخلات من خلال المسارعة إلى معالجة الشوائب التي اعترت العملية الانتخابية في الخارج لكل تظهر بأبهى حلة.
فالوقوع في شرك خطأ واحد، متعمّد أو عفوي، من شأنه أن يؤلّب الرأي العام ضدّ الأحزاب السلطوية ويعرضها لحملات عنيفة من جانب معارضيها، وهؤلاء ليسوا قِلَّة. وبالتالي كان لا بدّ من تحصين العملية الانتخابية في الخارج وحمايتها برموش العيون لكي لا تُستغل عِللها أو تحيّزها في حال ضبطها بالجرم المشهود، في الحملات الانتخابية في الداخل اللبناني، على مسافة أيام قليلة من فتح صناديق الاقتراع. «غلطة الشاطر» ستكون بألف.
لكن المفارقة الأهم، تجلّت في الأرقام التي سجّلها يوما الاقتراع في الخارج حيث لم تتعد نسبة المشاركة الـ50%، معدلاً وسطياً، ولو أنّها ارتفعت عن هذه العتبة في بعض الدول، لكنها في دول أخرى انخفضت عن المعدل الوسطي.
هكذا غابت الأرقام القياسية عن يومي الاستحقاق «الماراتونيين» لتطرح علامات استفهام حول تراجع المنتشرين عن الحماسة للتوجّه الى مراكز الاقتراع، مع أنّهم أصحاب المبادرة بالتقدم وتسجيل اسمائهم لكي تتاح لهم فرصة الاقتراع من الخارج. ما يعني أنّ الاعتقاد كان سائداً في أنّ الغالبية العظمى من المتسجلين سيتوجهون الى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.
ولكن أولاً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأرقام التي تسجلت الكترونياً لكي يمارس أصحابها الحق في الاقتراع في دول الانتشار، تعتبر انطلاقة جدية وجيدة كونها المرة الأولى، لكنها لا تعبّر عن حقيقة الانتشار اللبناني بحيث أنّ 82965 ناخباً لا يشكلون أكثر من 10% من اللبنانيين الذين يحق لهم الاقتراع والموجودين خارج البلاد. وبالتالي إنّ النسبة التي تحمست للمشاركة هي أصلاً ضعيفة جداً مقارنة بحجم الوجود اللبناني في الاغتراب، وتعكس انكفاء هؤلاء وعدم حماستهم لمنح أصواتهم لأي من اللوائح المتنافسة.
ثانياً، إنّ القسم الأكبر من المشاركين أدلى بأصواته أمس الأحد، حيث لم يتخط عدد المشاركين في الدول العربية الـ8800 من أصل نحو 12 ألف سجلوا أسماءهم، فيما البقية توزعت بين أوروبا، الأميركيتين، اوستراليا وأفريقيا. أما الدائرة التي احتضنت أكبر عدد من المنتشرين فهي دائرة الشمال الثالثة التي جمعت 12337 ناخباً من الخارج.
أما بالنسبة لإنخفاض أعداد المشاركين في «اليوم الكبير» فيمكن تلخيصها وفق بعض المعنيين كالآتي:
– راهن بعض الناخبين على قوى حزبية قد تحمّسه وتساعده على القيام بواجبه، خصوصاً في الدول التي تفصل فيها مسافات شاسعة بين مراكز الاقتراع وأماكن سكن الناخبين، الا أنه يبدو أنّ الأحزاب لم تتواصل إلاّ مع حلقات ضيقة من مؤيديها، فكان معظم المقترعين من الفئات المسيسة أو التي ترتبطها علاقات وثيقة بمرشحين نافذين، أو من الفئات الشبابية التي تقترع للمرة الأولى وكانت لديها الحماسة للتوجه الى مراكز الاقتراع.
– إنّ تشوه المشهد السياسي للمعارك الانتخابية حمل شريحة كبيرة من الناخبين الى الانكفاء سواء بسبب التحالفات الهجينة أو بسبب الترشيحات غير المقنعة.
هذا يعني أنّ النظام النسبي الذي كان يؤمل منه أن يرفع نسبة التصويت عالياً كونه قادر على تشجيع كل الفئات على المشاركة في التعبير عن رأيها لتكون ممثلة في مجلس النواب وفقاً لأحجامها، فقد دوره نتيجة أداء بعض القوى السياسية غير المقنع وقد نسجت تحالفات غير منسجمة ففقدت المعارك الانتخابية نكهتها السياسية متكلة على «جدول الضرب» وحسابات «ابحث عن الصوت التفضيلي ولو في الصين»!