نزل الشعب في 17 تشرين الأول إلى الساحات رافضاً فرض المزيد من الضرائب عليه. فتحوّلت ساحة الشهداء ورياض الصلح إلى مساحات للتعبير، واغتنم رسّامو غرافيتي الفرصة التي قلّما تتكرّر من أجل التعبير عن أفكارهم. فتحوّلت الجدران إلى لوحات فنية تحمل مطالب المتظاهرين وأخرى تحمل رسائل سياسية.
ولم يحتج الفنانون هذه المرة إلى إذن من بلدية بيروت للرسم على الجدران، بل منحتهم اللحظة شرعية تحويل ساحاتهم إلى معرض للوحاتهم، ونال مبنى مجلس شورى الدولة حصّته من هذا الفن، بعد أن نال حصّته من التكسير على يد المخربين.
وفي اليوم الأول بعد استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع، وتزامناً مع فتح الطرقات، نزل رسامون إلى وسط بيروت ليكملوا ما بدأوه. ويبدو أن فناني الغرافيتي يعملون وفق ما يشبه ميثاق الشرف الذي يمنعهم من الرسم فوق رسمة لفنان آخر، لذا بحث البعض عن مساحة لم يسبقه إليها أحد، أو عن شتيمة يمكن إزالتها والرسم فوقها. بينما رسمت مجموعة أخرى فوق الجدران التي جرى تخريب رسماتها في اعتداء أول من أمس في ساحة الشهداء.
على الجدار المحيط بأحد العقارات لجهة رياض الصلح، يجهّز سليم معوض الجدار ويطليه باللون الأبيض تمهيداً للبدء برسمته الرابعة على الجدار نفسه.
إنها المرة الأولى التي ينزل فيها معوض إلى الشارع ليرسم، إذ كان يكتفي بالرسم على القماش في مرسمه. لم يختر عشوائياً مكان رسماته، بل اختار المكان الذي يحتج فيه ناس “صلبين”، وفق وصفه. ويقول: “الناس الموجودون في رياض الصلح لا يريدون ما يريده أولئك الجالسون على بعد نحو 400 متر منهم في ساحة الشهداء. في رياض الصلح يهتفون باسم النبطية وصور ويطالبون بإقالة رئيس مجلس النواب نبيه بري. أما ساحة الشهداء ففيها مواطنون أكثر مدنية وتقدمية وفيها الذين يريدون أن يرقصوا ويغنوا، والمشهدان جميلان”. يعترف معوض بسعادته بالرسم على الجدران بحكم الأنانية، “فهنا نبرز نحن ورسالتنا أكثر”. لكن هذه الأنانية تأخذ من وقت الرسام ساعات إضافية، إذ أن الرسمة التي يحتاج إنجازها إلى نحو ساعة سيتطلب نحو خمس ساعات لأن الناس ستلتفت إليه وستحاوره.
لم يسلم الفن أيضاً من إعتداءات الشبان الذين اجتاحوا ساحتي رياض الصلح والشهداء أوّل من أمس واعتدوا على المتظاهرين بوحشية. معوّض كان شاهداً على الاجتياح وأحد ضحاياه، يروي أنه وبينما كانت الريشة بيده صرخ به أحد المعتدين: “شيل العصا من إيدك. فأخبرته بأنها ريشة، فصرخ بي: عم ترسم للثورة؟! ذكرني بمشهد من مسرحية لزياد الرحباني، وضربني بعصا حديدية على قدمي، قلت له لن أرسم للثورة مجدداً ولن أرسم طيلة حياتي. لكنهم سرقوا عدة الرسم ودراجتي الهوائية. فرسمت اليوم رسمة كتبت فيها: ردولنا الأموال المنهوبة وما تنسو البيسيكلات”. ووفق معوض فقد نزل اليوم إلى الساحة بعد أن تلقى اتصالاً من أحد يخبره بأن الحائط سيفكك وستزال رسمات الغرافيتي، فعاد مع عدته إلى المكان لرسم غيرها، لكنه اكتشف أن الخبر غير صحيح.
ساحة الشهداء
في ساحتي الشهداء ورياض الصلح لا يختلف الناس حول الشعارات وأسلوب التعبير فحسب، وإنما يختلف الفنانون أيضاً بأسلوبهم ومواقفهم، وهو ما يبرز بوضوح خلال التنقل بين الساحتين. فتحت تمثال الشهداء طاولة وضعت عليها عدّة الرسم والطلاء الملوّن ليقوم فنانون بالرسم على الجدران المحيطة بالتمثال بمبادرة أطلقتها الرسامة تمارا أبو علوان. تعتبر أبو علوان أن ما تقوم به هو “ثورة ثقافية بعيداً من السياسة والدين واي شيء على علاقة بالخوف والقتل الذي عشناه لسنوات، نريدها ثورة فن لا قتل ولا دماء ولا تكسير”. وترى علوان أنها بذلك توصل صوت الحياة التي نريد أن نحياها لتكون أكثر ألواناً وتناغماً. “اخترنا الرسم عند تمثال الشهداء لأننا كفنانين كنا نعتقد دائماً بأنه من الصعب جداً أن نتمكن من الخروج والرسم في الشوارع، فهذه الشوارع لنا. وفي أي مكان في بيروت سنحتاج لإذن لنتمكن من الرسم، شخصياً لا أرى سبباً لمنعنا من الرسم الذي يجمّل المكان”. تعترف أبو علوان أن الرسم على الجدران ممنوع في كل بلدان العالم، لكنها تحاول تحويل الفن إلى إنجاز، “يمكننا التفكير بأن يكون لبنان البلد الوحيد الذي حصلت فيه ثورة ثقافية لم تحصل في العالم”. من جهته يقول جو جرباقة، طالب الطب، الذي تجاوب مع مبادرة أبو علوان، أنه أتى ليرسم مجدداً في المكان بعد أن قام المعتدون أول من أمس بتشويه الرسمات الجميلة التي كانت في المكان، وسكب الطلاء الأحمر فوقها.
في الساحات أيضاً، فنانون تعمدوا رسم سياسيين عراة، ربما كتلميح لتعريتهم سياسياً بعد الاحتجاجات الأخيرة. غيرهم أراد أن يبرز أهمية الدور الذي لعبته المرأة في هذه الثورة. اختلفت رسائل الفنانين وأهدافهم لكن كلمة “ثورة” المرسومة على الجدران في مختلف الساحات وحّدت الجدران. ويتوقّع أن تبقى الغرافيتي صامدة على الجدران حتى استقرار الوضع نهائياً قبل إزالتها حرصاً على مشاعر السياسيين الذين سيمرون في الشوارع، وإخفاءً للرسائل السياسية التي تحملها. في هذا الإطار يقول معوض إن الرسمات ستزال لأن المسؤولين لا يريدون هذا الفضاء العام، ولأن هناك من يعتبر هذا الفن وسخ. ويذكر معوض أن جدار برلين جرى تقطيعه بعد إزالته ووضعه في معارض، وعرضت الغرافيتي الموجودة عليه كي لا ينسى الناس.