أي قضاء لمحاربة أي فساد؟ لم يكن من قبيل الصدف أن يتم الكشف عن ملفات فساد داخل الجسم القضائي في لبنان بعد التهديد السياسي بالبدء بفتح ملفات الفساد انطلاقاً من الرئيس فؤاد السنيورة. لم يفتح الملف الذي يبقى مفتوحاً في الإعلام بينما سارت سائر القضايا التي فتحت داخل القضاء إلى اللفلفة. دائما يحكى عن قضاة فاسدين وعن محاولات لتنقية الجسم القضائي وعن قضاة لا يرقى إليهم الشك ودائما يبقى الكلام مجرد كلام وإن حصلت محاسبة فتبقى محصورة ومعزولة ولا تقترب أبداً من التنقية. لذلك يبقى السؤال كيف يمكن لقضاء يتم التشكيك ببعض مكوناته وتعييناته والمحسوبيات فيه أن يتابع ملفات الفساد التي ترتبط أسماء الذين يمكن أن يتهموا بها بولاءات وحمايات سياسية؟
ما يحصل بين مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات ومدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون قد يكون بعض ما يختلج في هذا الجسم القضائي ويؤكد أن طريق المحاسبة أيا كان المتهم قد تكون مليئة بالحواجز فكيف إذا كان الملف مثلاً يتعلق برئيس حكومة آخر هو الرئيس نجيب ميقاتي؟
في عهد الوصاية السورية كان القضاء مضرب مثل في تبعيته لما تقرره الأجهزة الأمنية التابعة له بحيث كانت الضابطة العدلية هي التي تحرك العدلية وتقرر ما هي الملفات التي تحيلها إلى المحاكم حيث يكون القضاة المعينون في مواقعهم ملتزمين بما تقرره السلطة.
من بين الملفات التي حركت في تلك المرحلة مثلا ملف النائب السابق يحيى شمص الذي تم رفع الحصانة عنه في مجلس النواب قبل محاكمته وسجنه بعدما أفتى بذلك جهاز المخابرات السورية في لبنان، وملف الوزير السابق شاهي برصوميان الذي حكم عليه وسجن أيضا. ولا تخرج عن هذا الإطار المحاكمات التي استهدفت القوات اللبنانية.
خلال تلك المحاكمات كان القاضي منيف عويدات مدعيا عاما للتمييز. عندما وقف أمامه المتهم في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة جرجس توفيق الخوري اكتشف من خلال التحقيق معه أن لا علاقة له بعملية التفجير. قناعة منه بتلفيق التهمة ذهب إلى البطريرك صفير ووضع بين يديه ملفا لتعديل قانون العفو العام باعتبار أن لا حل لهذه القضية إلا بالسياسة. بعده تم تعيين القاضي عدنان عضوم في هذا الموقع ليمثل خير تمثيل سلطة السلطة القائمة وقتها على القضاء.
العدالة الدولية
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كانت هناك قناعة شبه تامة بأن لا قدرة لدى القضاء اللبناني للبت بهذه القضية. على العكس كان من المتوقع أن يتم الإستناد إلى هذا القضاء من أجل حفظ الملف نظراً لعدم توفر أي معلومات بحيث تبقى الدعوى مسجلة ضد مجهول كما في ملفات اغتيال كثيرة لا تزال فارغة من أي أوراق. ولذلك كان القرار الدولي بتشكيل لجنة التحقيق الدولية أولاً ثم المحكمة الدولية التي كانت السبب في استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تمسكت بموقفها ولم تسقط أمام الهجمة التي تعرضت لها وإن تم اعتبارها بعد ذلك أنها كانت حكومة بتراء.
ما يحصل اليوم داخل الجسم القضائي لا يوحي بأن هذا القضاء قادر على المحاسبة في ملفات كبرى تتعلق بقضايا فساد كبرى إن لم تكن لديه سلطة قضائية مستقلة تبدأ من وزير مستقل للعدل ومن خلال تشكيلات جديدة تبعد المحسوبيات عن المراكز الرئيسية.
ما بين القصرين
لم يكن مشهد “المؤتمر الصحافي” الذي عقدته مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون بعيداً من أجواء الإختلاجات التي تعصف بالجسم القضائي. هذا المشهد ترافق مع مشهدين: تظاهرات نظمها مناصرون للتيار الوطني الحر أمام قصور العدل في بيروت وجبل لبنان والجديدة وجونيه ومع تحركات نواب من تكتل لبنان القوي باتجاه مجلس النواب من أجل الإسراع في البت بقانون الإثراء غير المشروع في خطوات لم تؤدّ إلى إعطاء النتيجة المرجوة منها في ظل تفاقم حركة الإحتجاجات الشعبية في الشوارع بحيث بدا من خلال كل هذه الحركة أن ما فعلته القاضية عون لم يكن من خارج هذا السياق.
عند كل تشكيلات قضائية يدور التجاذب السياسي حول المواقع الاولى والمؤثرة في القضاء، وأبرزها النائب العام التمييزي ورئيس مجلس القضاء الاعلى ورئيس هيئة التفتيش القضائي والنيابة العامة الاستئنافية وقضاء التحقيق الاول ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لِما لكل منها من تأثير مباشر أو غير مباشر في تولي السلطة وممارستها.
في التشكيلات التي حصلت مع بداية عهد الرئيس ميشال عون كانت النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان من حصة رئيس الجمهورية ونُقلت القاضية غادة عون من رئاسة محكمة جنايات البقاع الى بعبدا واستلمت المركز، وكان معها قاضي التحقيق الاول في جبل لبنان القاضي نقولا منصور، اما النيابة العامة التمييزية فكانت في التشكيلات الأخيرة من حصة رئيس الحكومة ونُقل القاضي غسان منيف عويدات من مركز قاضي التحقيق الأول في بيروت الى هذا المركز.
تتمتع النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بصلاحية وسلطة تحريك دعاوى الحق العام ضمن دائرتها وهي تتولى شؤونها بمعاونة قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق والضابطة العدلية، وتتلقى الاخبارات والشكاوى والتحقيقات وتمارس سلطة الادعاء ولها ان توجه التنبيهات وتتخذ التدابير بحق التابعين لها، وقد مارست وظيفتها منذ استلامها، فحركت العديد من الملفات وادعت على الكثير من المرتكبين وأبرز من ادعت عليهم بعض المحامين والمساعدين القضائيين عندما بدأ تحريك ملف الفساد في القضاء وادعت على أحد مرافقيها، الذي أُحيل الى المحاكمة بتهمة كبيرة ثم حوكم بجريمة مخالفة التعليمات، وأحالت مساعدين قضائيين في قلم النيابة العامة وقلم قضاة التحقيق ومحاكم جبل لبنان الى المحاكمة، كما ادعت في تشرين الثاني 2017 على الاعلامي مارسيل غانم على خلفية حلقة تلفزيونية باعتبار أنه تم التعرض فيها لرئيس الجمهورية، وأصدرت قرارت كبيرة مثل وقف العمل في كسارات عين داره، وحصل شدّ حبال بينها وبين قاضي التحقيق الاول نقولا منصور حول الصلاحيات وتمّ تجاوز ذلك.
بعد بدء التظاهرات في الشارع ويوم حصول تجمع من مناصري رئيس الجمهورية أمام قصر العدل في بعبدا، إدعت القاضية عون بحق رئيس الوزراء السابق والنائب الحالي نجيب ميقاتي استناداً للمادة 10 من قانون الاثراء غير المشروع وأدلت بحديث صحافي تم نقله مباشرة على الهواء قالت فيه علناً ان الملف كان في الجارور منذ أكثر من سنة وأنها تعاطفت مع الناس في الشارع وهتافهم وحرّكت الملف وأن هناك ملفات عديدة تتعلق بالفساد لم يتم تحريكها.
كثرت التحليلات حول هذا الادعاء وتداولت معلومات ان النائب العام التمييزي سيقرر حفظ الدعوى لا سيما بعدما أدلى ميقاتي ان النيابة العامة المالية قررت حفظ الدعوى سابقاً وأنه ينوي تقديم الدعاوى ضد من شهّروا به بجرم القدح والذم. ثم وبعد ذلك أصدر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قراراً أنزل فيه بحق النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون عقوبة مسلكية سندا للمادة 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وقد أُبلغ القرار من وزير العدل البيرت سرحان المحسوب ضمن وزراء التيار الوطني الحر وهيئة التفتيش القضائي، وقد عدد في قرار العقوبة المخالفات المسلكية المرتكبة من قبلها والتي ضربت فيها القواعد القانونية وقواعد المناقبية.
كما أصدر عويدات تعميماً الى المدير العام لقوى الامن الداخلي والامن العام بعدم مخابرتها في القضايا المطروحة أمامهما، وبالتالي مخابرة المحامي العام الاستئنافي المناوب في جبل لبنان أو النائب العام التمييزي في القضايا الهامة.
مع ام ضد؟
انقسم الرأي بين داعم لرأي النائب العام التمييزي ومؤيد لتصرفات النائب العام الاستئنافي، التي صرحت أنها مارست حقها استناداً للقانون وأن المادة 10 من قانون الاثراء غير المشروع تعطيها هذا الحق وأن رئيسها النائب العام التمييزي يتجاوز صلاحياته ويصادر صلاحياتها، وهذا الامر يرتدي طابعاً سياسياً بهدف منعها من تحريك ملفات الفساد، وأصدرت تعميماً للاجهزة الامنية تطلب فيه مخابرتها حصراً في القضايا الواقعة في جبل لبنان.
هنا يجدر التساؤل هل فعلاً هي معركة سياسية أم أنها مسألة صلاحيات قضائية؟
بالعودة الى القانون ان قضاة النيابة العامة يرتبطون برؤسائهم تسلسلياً في سلسلة تنتهي بوزير العدل الذي يشرف على دوائر النيابات العامة بصفته عضواً في الحكومة التي يجب ان تحرص على الامن وأن توفر ضروراته، ويليه في السلسلة النائب العام التمييزي ثم يأتي النائب العام الاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة. وبعد أن كان القانون 8/54 في المادة 33 ينص على انه يحق لوزير العدل او يوجه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها التقيد بها، أُلغيت هذه المادة بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين رقم 7855 وأستُعيض عنها بالمادة 3 التي تقول ان قضاة النيابة العامة يخضعون لادارة ومراقبة رؤسائهم وسلطة وزير العدل، وخصت المادة 21 من القانون 7855 النائب العام التمييزي بحق توجيه قضاة النيابة العامة في تسيير دعوى الحق العام عند الاقتضاء بتعليمات خطية، والمادة 31 من القانون 150 أبقت على سلطة التوجيه للنائب العام التمييزي وأوردت ان سلطته تتناول جميع قضاة النيابة العامة وله توجيههم في تسيير دعوى الحق العام عند الاقتضاء بتعليمات خطية.
والنائب العام التمييزي القاضي عويدات يصرّ على هذه الصلاحيات ويؤكد ان ما قام به تجاه القاضية غادة عون استناداً للمادة 16 من قانون الأصول الجزائية يدخل في صميم صلاحياته، بينما تصر القاضية عون انه يتجاوز صلاحياته وأنها تمارس صلاحياتها.
وازاء هذا الكباش السياسي القضائي تبرز صلاحية مجلس القضاء الاعلى الذي يرأسه القاضي سهيل عبود وقد أناط به القانون صلاحية تأليف المجلس التأديبي للقضاة ودرس ملف اي قاض والطلب الى هيئة التفتيش القضائي اجراء التحقيقات اللازمة واتخاذ التدابير والقرارات المناسبة.
هل يكون حل هذه القضية من خلال هيئة التفتيش القضائي وداخل البيت على طريقة اللاغالب واللامغلوب؟ أم يتمسك كل بصلاحياته ويسير فيها الى الآخر؟ أم تتم التسوية حبياً على طريقة فك الإشتباك والإبتعاد عن الملفات الخلافية؟
لا شك في أن ظلال الخلافات السياسية ستبقى مخيمة على قصور العدل. صحيح أن الأحكام تصدر باسم الشعب اللبناني ولكن في الواقع لا يشذ القضاء عن صورة الشوارع والسلطة. ولذلك قد لا تكون هناك أي فرصة في الإقتراب من الملفات الصعبة طالما أن هناك اشتباكات تحصل على محاور السياسة كما على محاور قصور العدل. وما يحصل بين القاضي عويدات وبين القاضية عون ليس إلا صورة مصغرة عن هذه المحاور بانتظار أن تصبح التعيينات القضائية خاضعة لسلطة مستقلة وللكفاءة والنزاهة وليس للولاءات السياسية.