IMLebanon

الحرب في سنتها الخامسة؛ موازين القوى وأسئلة المصير

لا جديد في تصريح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، حول سوريا. الولايات المتحدة ستضطر، في النهاية، إلى التفاوض مع الرئيس بشار) الأسد؟ أليس هذا هو الموقف الفعلي الناجم عن موازين القوى في الصراع؛ بل هو الموقف الذي أبلغه الأميركيون، مراراً، بأشكال مختلفة، إلى حلفائهم، مباشرة، أو من خلال تجاهل التوسلات السعودية للحسم مع دمشق، أو بالإصرار على إفشال الأطروحة الأردوغانية، القائمة على اعتبار «داعش» والأسد، هدفين متساويين للتحالف الأميركي ــــ التركي.

كيري، انطلاقاً من الإقرار بأن ميزان القوى يميل لصالح قوى الدولة الوطنية السورية، يجدّد المقاربة البلهاء والإجرامية، القائلة بضرورة ممارسة «المزيد من الضغوط»، لإجبار رئيس سوريا على القبول بـ «حل انتقالي سلمي»، استنادا إلى «جنيف 1». وهذه المقاربة بلهاء، لأن هكذا «حل» لم تعد له أرضية واقعية، لكنه إجرامي لأنه سيكلّف السوريين المزيد من الدماء والتضحيات، قبل أن يتبين أن المسعى الأميركي لتأهيل ميليشيات «معتدلة» تكون طرفاً في حل سياسي سوري، لن يؤدي إلى نتيجة؛ الأرجح أن الاستمرار في الضغوط على سوريا، يرتبط بهدف آخر، لا علاقة له بالتسوية الداخلية، بل (1) بالتسويات الإقليمية من وجهة النظر الأميركية (الدور الإيراني، واقتسام النفوذ في العراق، وتحجيم ثورتي اليمن والبحرين) وبالتسويات الدولية لملفات الصراع مع روسيا والصين، و(2) الحيلولة دون تجذّر نهج وبنى المقاومة في الجولان، واستغلال الضربات الموجعة التي حلت بالدولة السورية لجرّها إلى مفاوضات، من موقع ضعيف، مع إسرائيل، و(3) خلق المعادلات التي تسمح بتصفية القضية الفلسطينية.

بمعنى آخر، تتجه الولايات المتحدة إلى الحصول على مكتسبات واقعية، اقليمياً ودولياً، بدلاً من الجمود عند الشعارات التي ما يزال يتشبّث بها حلفاؤها الإقليميون الهلعون من منعكسات هذا النهج البراغماتي. السعودية لا تريد أن تصدّق أن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة المطلقة التي لا تلجمها قيود، بينما تتوهم قطر أن تركيبتها الخاصة من التمويل الكثيف وانعدام الأخلاق والتهييج الإعلامي واستخدام الاسلام السياسي والإرهابي والشطارة، هي وصفة سحرية لتغيير مجرى التاريخ! ويتعزز هذا الوهم، ويتغذى، من طموحات أردوغان لتكرار الامبراطورية العثمانية، وبالوسائل المذهبية والإرهابية نفسها التي مارسها الأجداد الهمج. إن أي مشروع سياسي لا يأخذ، في الاعتبار، حقائق الزمن الذي يعاصره، يتحول إلى مسخرة؛ وستظل مجرد مسخرة حتى حين تعبّد طريقها الرؤوس المقطوعة.

ما الذي كان بوسع الأميركيين، في إطار موازين القوى الدولية والإقليمية المستجدة، عمله، لإسقاط الدولة السورية، ولم يفعلوه؟ شغّلوا، منذ «ربيع» 2011، حملة سياسية مكثفة لعزل دمشق وسحب الشرعية من الرئيس الأسد، وحاولوا استخدام القرارات الدولية لتكرار النموذج الليبي في سوريا، ونظّموا (كما كشف الزميل محمد بلوط) اغتيال قيادات سورية في تموز 2012، في سياق خطة انقلابية فاشلة، ووصلوا، في صيف 2013، إلى شفير العدوان المباشر على سوريا، تحت ذريعة الأكاذيب عن استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي، وعجزوا. وخلال كل ذلك، وبعده، لم تدّخر واشنطن، جهداً في تعبئة وإدارة وحماية الجماعات المسلحة والإرهابية وإراقة دماء السوريين وتدمير اقتصادهم ومنجزاتهم ونهب ثرواتهم.

في المقابل، تكونت، في صيف 2014، كتلة وطنية سورية وازنة (تضم أغلبية السوريين) في سياق انتخابات رئاسية جددت شرعية الرئيس بشار الأسد. هذه الكتلة تتسع اليوم، وستتسع أكثر فأكثر، في ثلاثة اتجاهات (1) عودة الوعي الوطني في صفوف شرائح متزايدة من المجتمع السوري، (2) والمصالحات المحلية، (3) وانتشار ظاهرة التمرد الشعبي على سيطرة الإرهابيين. وهذه الاتجاهات هي التي ترسم، الآن، اتجاهات وأمداء العمل العسكري؛ فلا يقيّد الجيش السوري، في عملياته الميدانية، بعد، إلا الاعتبارات الاجتماعية والانسانية والسياسية المحلية. وهذه معادلة، من شأنها، بالطبع، أن تطيل فترة الحسم العسكري قليلاً، ولكنها تحدّ من استنزاف قوى الدولة والمجتمع، وتحول دون تعميق الجراح.

المعضلات التي تواجهها الدولة السورية ونخبها، في العام الخامس من الحرب، لا تُحَلّ بالمفاوضات مع الأعداء، ولا بدعم الحلفاء؛ فهي معضلات سورية داخلية خالصة، وجاء الوقت لمعالجتها، أو أقله لفتح الحوار الجدي لمعالجتها. ونحن نتحدث، هنا، عن نوعين من القضايا؛ يرتبط النوع الأول منها، بالحاضر المرير للمستوى المعيشي والمشكلات الحياتية لأغلبية السوريين، ويرتبط النوع الثاني منها بالأسئلة الكبرى حول الهوية السياسية ــــ الثقافية للجمهورية (أسئلة الوطنية والقومية السورية وتجديد مفهوم العروبة والدور الإقليمي وحسم مسألة العلمانية والمقاومة والتحرير الخ) وكذلك، بالسؤال الكبير حول الهوية الاقتصادية ـ الاجتماعية للدولة، ودورها التنموي. وهو ما سيحدد مضمون عملية إعادة الإعمار، ولمصلحة مَن؟