ترفض الطبيعة الفراغ، وكذلك يكرهه عالم سياسة القوة. وليس من المستغرب أن تتدافع الأطراف لملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا القرار. ولم يكتفِ تنظيم «داعش» بمحاولة إثبات أنه لم يهزم بعد من خلال تبني التفجير الذي أودى بحياة أربعة أميركيين، بل تعدى ذلك إلى وجود دلائل على أن الإيرانيين زادوا من تدفق أسلحتهم إلى سوريا.
ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن الجهود الإيرانية الجديدة بدأت بعد إعلان ترمب، وتركز أكثر على وضع الصواريخ المتقدمة في القواعد السورية الحالية، ربما ظناً منها بأن الروس الذين التزموا حماية نظام الأسد سيردعون الإسرائيليين عن شن ضربات ضد القواعد السورية.
ومما لا شك فيه أن آمال الإيرانيين وتوقعاتهم قائمة على الموقف الصارم الذي اتخذه الروس تجاه إسرائيل بعد إسقاط إحدى طائراتهم، مما أدى إلى مقتل 15 جندياً روسياً. والمفارقة أن الصواريخ السورية المضادة للطائرات هي التي أسقطت الطائرة مباشرة بعد عودة الطائرات الإسرائيلية إلى قاعدتها فور الانتهاء من مهمتها.
ولكن، وبما أن الروس موجودون في سوريا لحماية حليفهم الأسد، فقد وجدوا من الملائم أكثر إلقاء اللوم على الإسرائيليين.
وإذا ظن الإيرانيون أنه يمكنهم الاعتماد على الروس لردع أو منع الهجمات الإسرائيلية على القواعد أو المنشآت السورية التي تعمل فيها قواتهم، فمع الأسف هم مخطئون. فبطبيعة الحال، انتقد الروس – الذين يريدون أن تغادر الولايات المتحدة سوريا – الإسرائيليين بسبب ضرباتهم الجوية «التعسفية».
فقد خفضت إسرائيل من المعايير التي وضعتها رادعاً قبل التصرف ضد أو الهجوم على الإيرانيين في سوريا بعد إعلان الولايات المتحدة انسحاب قواتها، وذلك لأن وجود القوات الأميركية في الأراضي السورية دفع الإيرانيين إلى توخي الحذر في تصرفاتهم لسببين على الأقل:
الأول، لتجنب إثارة رد عسكري أميركي ضد قواتهم في سوريا.
والثاني، لتجنب ضغط روسيا عليهم كي لا يتصرفوا بطريقة تعطي الأميركيين سبباً للبقاء في سوريا.
وكان واضحاً اعتقاد الإيرانيين أن مغادرة القوات الأميركية ستسمح لهم بأن يصبحوا أكثر نشاطاً، وكذلك الأمر بالنسبة للروس.
ففي النهاية، يشكل مستشارو «فيلق القدس» العسكريون ووكلاؤهم من الميليشيات الشيعية الموجودون على الأرض، حاجة بالنسبة للروس وللأسد لملء الفراغ والقضاء على بقايا تنظيم «داعش» في سوريا.
ولكن فشل الروس والإيرانيين في التيقن من مغادرة الولايات المتحدة سيجعل إسرائيل أكثر حزماً في ترسيخ حدودها أو خطوطها الحمراء في سوريا.
وقد نفذت إسرائيل بالفعل أكثر من 200 عملية في سوريا لتوضيح أنها لن تتسامح مع الإيرانيين الذين يخلقون في سوريا ما خلقوه في لبنان.
وأشار إعلان ترمب كذلك إلى أن إسرائيل كانت بمفردها، وأن الولايات المتحدة لن تقوم بأي شيء للحد من تحصينات إيران الإضافية أو تطويرها لقدرات صاروخية أكثر تقدماً في سوريا.
وبالنظر إلى الظروف الجديدة، اختار الإسرائيليون التصرف ونفذوا عمليتين خلال ثمانية أيام بعد أن كانوا قد خفّضوا عدد عملياتهم في سوريا بشكل كبير بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية. وتستهدف ضرباتهم دمشق والمناطق التي تحيطها، بما في ذلك مطار دمشق الدولي، وتتضمن هذه الأهداف مستودعات أسلحة لإيران ومواقع استخباراتية وقواعد تدريب.
وردا على العمليتين، أطلق الإيرانيون صاروخاً باليستياً ضخماً يحمل رأساً حربياً كبيراً باتجاه منتجع تزلج إسرائيلي على جبل حرمون في مرتفعات الجولان حيث كان يوجد كثير من السياح الإسرائيليين. واستطاع الإسرائيليون إسقاط الصاروخ ثم ردوا عن طريق شن هجمات تستهدف منشآت إيرانية مختلفة واستطاعوا ضرب مجموعة من الأسلحة الإيرانية وكذلك قاعدة حربية في الكسوة جنوب دمشق.
كما دمروا بطاريات الدفاع الجوي السورية التي أطلقت النار على الطائرات الإسرائيلية. وبعد الضربات الانتقامية، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن «قوة إيرانية» هي من أطلقت الصاروخ الإيراني «من منطقة في دمشق من داخل أراضي (الحكومة السورية) التي كانت قد وعدت بعدم استضافة وجود إيراني فيها».
ومن الواضح أن الإيرانيين موجودون في مناطق سورية ويتشاركون مواقع مشتركة مع الجيش السوري بالإضافة إلى قواعدهم الخاصة. وتصرفت إسرائيل لتظهر أنها ستمنع وجود هذا النوع من الوجود الإيراني.
وقد تعدى الصاروخ الذي أطلقه الإيرانيون الحدود، مثلما حدث في مارس (آذار) 2018 عندما أرسلت إيران طائرة من دون طيار تحمل أسلحة باتجاه إسرائيل، ولأول مرة كانت مستعدة لمهاجمة الإسرائيليين مباشرة وليس عن طريق وكلائها في سوريا.
وأظهر حجم الصاروخ الأخير الذي أطلقته إيران والحمولة التي عليه استعدادها لإلحاق المزيد من الضرر المباشر بالإسرائيليين. ومجدداً أحبط الإسرائيليون الهجوم الإيراني وتكبد الإيرانيون الأضرار.
هل سيهدّئ ما حصل الوضع في الوقت الراهن؟ قد يفعل ذلك، ولكن ومع انسحاب الولايات المتحدة من سوريا ستواصل إسرائيل الاعتقاد أنها يجب أن تضع خطوطها الحمراء الخاصة التي إذا عبرها الإيرانيون فستتخذ حينها إجراءات أكثر صرامة.
ويكمن السؤال الآن فيما إذا كان الإيرانيون – الذين عانوا مرة أخرى خسائر عسكرية في سوريا – قد قرروا إنهاء التصعيد وتبني مواقف ذات أهمية أقل في سوريا. ففي جميع الأحوال لن يغادروا سوريا. ومهما قال الإسرائيليون فهم يعرفون أن إيران لن تغادر ولكنهم يسعون إلى تقييد طابع الوجود الإيراني والتيقن من أن الصواريخ ذات أنظمة التوجيه المتقدمة لن تستخدم ضدهم.
قد يكون إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا ساهم في التصعيد العسكري الذي حصل هذا الأسبوع بين الإسرائيليين والإيرانيين ولكنه ليس مصدر الصراع. فعندما يقول قائد سلاح الجو الإيراني: «نحن مستعدون للحرب الحاسمة التي ستؤدي إلى تدمير إسرائيل»، يفهم الإسرائيليون ما يواجهونه ويشعرون أن عليهم منع الإيرانيين من التصرف لتنفيذ مثل هذه التهديدات. وسيواصلون العمل بحسم ضد التحركات الإيرانية الهادفة إلى خلق تهديد أكبر لإسرائيل من سوريا ولبنان. وسيؤكدون للإيرانيين أنه إذا اعتقدوا أنهم قادرون على شن هجوم بآلاف الصواريخ ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية والسورية دون تلقي أي رد هجومي من إسرائيل مباشرة على الأراضي الإيرانية فهم بحاجة إلى إعادة النظر في الموضوع.
لا ينبغي لأحد في المنطقة أو في الخارج أن يعتقد أن الحرب التي قد تبدأ في لبنان لن تنتشر إلى بقية الدول في المنطقة. إذ ستضرب إسرائيل أهدافاً ذات قيمة عالية في إيران، إذا ما تلقت آلاف الضربات من صواريخ «حزب الله» والصواريخ الإيرانية من لبنان وسوريا. ومن الذي ستضربه إيران في المقابل؟ يشعر قادتها أن بإمكانهم إضافة القليل إلى ما تفعله صواريخ «حزب الله» ويقررون ضرب بلدان خليجية. وقد ينفجر هذا السيناريو بسرعة ولا يتم احتواؤه بسهولة.
يصعب تحديد الجهة التي سيخدم نزاع من هذا النوع مصالحها. وإذا شرحت إدارة ترمب بصراحة للروس أن مثل هذا الصراع سيعيد الولايات المتحدة إلى المنطقة، فسيحفز ذلك بوتين للقيام بالمزيد، للحد مما يقوم به الإيرانيون في سوريا. ويعتمد تجنب نزاع إقليمي أكبر على فرض مثل هذه الحدود.
* خاص بـ «الشرق الأوسط»