المصطلحات في عالم السياسة جزء أساسي من السرديات التي تقدّمها الجهات المنخرطة في معركة كبيرة. لا حاجة إلى العودة بعيداً في التاريخ. تذكّروا فقط أنه بعد الأسابيع الأولى على إطلاق العدو حرب الإبادة في غزة، خرج من يدعونا إلى التفكير في «اليوم التالي». ومع مزيد من التدقيق، يمكن العثور فوراً على هذا العنوان كإحدى حيل رعاة العدو وحلفائه للهروب من مسؤولية وقف الإبادة، وكعنوان للأمل لدى عملاء العدوين الأميركي والإسرائيلي ممن ينتظرون حصاد الحرب.
تقوم فكرة «اليوم التالي» على تغيير شامل في المشهد، انطلاقاً من فكرة أنّ كل ما كان موجوداً قبل الحرب لا يجب أن يبقى ويستمر بعدها. وهو ما يعني، فعلياً، الاستسلام الكامل للعدو.
في غزة مثلاً، فإن من سارعوا إلى إطلاق ورشة «اليوم التالي» يتصرفون وكأن المقاومة سقطت وولّى زمنها. وهم عندما يتحدثون عن «اليوم التالي»، يريدون من الناس أن ينشغلوا بـ«يومهم التالي» عن أي نقاش حول «يومنا الحالي». فهم بعدما أعفوا أنفسهم أصلاً من مهمة الانخراط في مقاومة العدو، يروّجون لفكرة أنّ الناس ليسوا معنيين بفعل أي شيء من أجل «يومهم الحالي».
كل ذلك، يوجب حسم النقاش بصورة مطلقة الآن، والتصرف وفقاً لقاعدة ثابتة، تقول إننا في قلب معركة «اليوم الحالي»، ولسنا معنيين، على الإطلاق، بكل نقاش حول «اليوم التالي». فهو عنوان يخص الأعداء، وبرنامج من يريد نقل البلاد من ضفة إلى أخرى، والتقاعس عن دوره في «اليوم الحالي»، وهذا ليس دورنا.
«اليوم الحالي» يوم مفتوح، وهو عبارة عن أيام طويلة عنوانها الوحيد: المقاومة والصمود. وكل من يجد نفسه معنياً بالانخراط في معركة المقاومة ضد هذا الجمع الكبير من الأعداء، عليه أن لا ينجرّ إلى نقاشهم، ولا إلى تصوراتهم التي تُقدّم وكأنها حقائق قائمة. بل أنْ يبقى مركّزاً على متطلبات «يومنا الحالي». وهي متطلبات ترسم شكل مشاركتنا ونوع مساهمتنا في هذه المقاومة المقدّسة. أما من يريد الهروب من هذا الاستحقاق، فهو ينتمي إلى «يومهم التالي» الذي لا وجود له سوى في مخيّلتهم، خصوصاً أن هؤلاء أنفسهم يعرفون أن لا شيء يرسم المستقبل غير حاضرنا الذي نعيشه ونصنعه نحن.
وكما في غزة، كذلك في لبنان، إذ لم تكد أيام قليلة تمضي على إطلاق العدو معركته الوحشية ضد لبنان، حتى خرج علينا أتباع المشروع المعادي بسؤالهم عن «اليوم التالي». وهم يتصرفون، بحنق وحقد، على أساس أنّ العدو ربح الحرب، وأن كل ما يجري الآن من مقاومة جهد لا جدوى منه. ولدى التدقيق في ما يريدونه من «اليوم التالي»، سنجد أنهم يعودون إلى الطموحات والأحلام نفسها التي واجهناها منذ قيام هذا الكيان الوحش، والتي فشل العدوّان الأميركي والإسرائيلي في تحقيقها على مدى عقود، وشنّا لأجلها كل الحروب. لكنهم، على طبيعتهم، يعاودون الكرّة، ويعتبرون استمرار المقاومة «إنكاراً ومكابرة»، وهم يفعلون ذلك، بوقاحة كبيرة، كون مشروعهم قائماً أصلاً على فكرة أن لا جدوى من المقاومة، وأن كلفتها باهظة لا قدرة لنا على تحمّلها، ولا تجلب لنا سوى الدمار والخراب. ويحاولون إقناع الناس بأن المعركة حُسمت، ويدعونهم إلى استسلام كامل. وبعضهم سبق أن دعا إلى الاستسلام باعتباره «فعلاً خلاصياً»، وهذا جوهر ما يريده الأعداء.
تعيش بلادنا اليوم حالة مقاومة، ومن سقط منذ زمن يحاول إقناعنا بالاستسلام للخلاص، ويتصرف كما فعل سابقاً بأن المعركة انتهت بانتصار العدو
لكن، هلّا سأل هؤلاء العدو نفسه عن تصوّره لـ«اليوم التالي»؟ وهل يمكن لأحد العثور على تصوّر فعلي لهذا اليوم لدى العدو؟ هل من نقاش جدي لدى العدوّين الأميركي والإسرائيلي حول مستقبلهم هم في «اليوم التالي». بالتأكيد لن تعثروا على شيء من هذا النقاش. لماذا؟ لأنهم لا يعتبرون أنفسهم معنيين بـ«اليوم التالي»، فهم وضعوه كوصفة للآخرين، وليس لمستقبلهم، ويتصرفون على أساس أنهم سيخرجون من الحرب منتصرين.
أما ما يقوم به الأعداء في «يومنا الحالي»، فهو قيادة أشرس معركة ضد أقوى ظاهرة مقاومة للاحتلالين الأميركي والإسرائيلي لمنطقتنا وبلادنا. ولدى هؤلاء إستراتيجية وحيدة تقوم على القتل كوسيلة وحيدة لإنهاء الآخر، فتكون الإبادة المباشرة كما يحصل الآن في غزة ولبنان، أو قتل الروح، وجعل الناس مجرد ماكينات وأرقام في عالم يسيطر عليه هذا الوحش الرأسمالي الذي يمر بأكثر مراحله قساوة وقذارة، كما هي حال الهائمين بالتطور والتقدم في محميات الغرب.
أما نحن، فلسنا خارج التاريخ، و«يومنا الحالي» الذي نهتم به، هو إرث ما ناضل واستشهد لأجله كل الذين مضوا، وهو الطريق إلى مستقبلنا كما نريده نحن لأنفسنا. وهو ما يجعلنا نقبل على خيارات فيها الكثير من التعب والتضحيات، لكن فيها ما هو أكثر من حرية حقيقية من هذا الاستعباد.
و«يومنا الحالي»، هو اليوم الذي يفرض علينا تحديات كبيرة. كما يفرض جدول أعمالنا، وبنوده محصورة في حفظ المقاومة، وضمان استمرارها، والسعي إلى حمايتها، جسماً وناساً وأدوات إنتاج. وكل ما ننجزه في «يومنا الحالي»، هو ما يُجهز على «يومهم التالي». أما من يعتقد بأنّ هذه الحرب ستمنح الأعداء فرصة للبقاء طويلاً، فهو لا يعرف معنى التضحيات التي تُبذل اليوم. وما يقوم به المقاومون هو الفعل الحقيقي الذي ينتمي إلى «اليوم الحالي». هو اليوم الذي يصنع أيامنا التالية، على صورة من مضى من الشهداء!