لن تكون العملية الإسرائيلية ضد أحد مواقع “حزب الله” في منطقة عقربا السورية قرب دمشق الأخيرة، ولن يكون سقوط الطائرتين المسيّرتين الإسرائيليتين قرب المركز الإعلامي التابع لـ “الحزب” في ضاحية بيروت الجنوبية ليل الأحد 25 آب آخر المواجهات في الحرب المفتوحة بينه وبين إسرائيل. فوقف إطلاق النار المبرمج وفق القرار 1701 على أثر حرب تموز 2006 لا يزال يشكل السقف الذي يعمل تحته الطرفان، وإن كان ما يحصل من مواجهات يشكل أطلاق نار متقطعاً عليه من دون الدخول في حرب مفتوحة لا قرار فيها. وفي ظل هذا الوضع لا مكان للبحث في استراتيجية دفاعية في لبنان طالما أن “الحزب” لا يزال مستمراً في استراتيجية الحرب المفتوحة.
ليست المرة الأولى التي تشن فيها إسرائيل هجمات على مواقع تابعة لـ “حزب الله” في سوريا. الغارة التي استهدفت مخازن ومستودعات اسلحة تابعة له وللحرس الثوري الايراني بهدف “إحباط عملية إرهابية خطط لتنفيذها فيلق القدس الايراني وميليشيات شيعية ضد أهداف إسرائيلية” كما أعلنت إسرائيل، كانت موجعة لأنها أدت إلى مقتل عنصرين من “الحزب” هما حسن زبيب من بلدة المروانية وياسر ضاهر من بلدة بليدا، متدربين على استخدام الطائرات المسيّرة.
لقد كشفت العملية اختراقا أمنياً إسرائيلياً لما يخطط له “حزب الله”. ولم تقف إسرائيل عند هذا الحد بل وسّعت اعتداءاتها نحو الضاحية حيث أنه لم يتمّ الفصل بين ما كانت تخطط للقيام به وبين ما فعلته في عقربا السورية.
إنها الحرب المفتوحة بين “حزب الله” والعدو الإسرائيلي. أحياناً سجل فيها “الحزب” اختراقات ونجاحات ولكن في الإجمال كانت له إخفاقات، خصوصاً بعد انخراطه في الحرب السورية حيث تلقى الكثير من الضربات الموجعة من دون أن يتمكن من تحقيق التوازن في الردّ.
اللافت في هذه الحرب أن نجاحات “الحزب” كانت في زمن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والخسائر كانت في زمن نتنياهو أيضاً.
من أنصارية إلى عقربا
في العام 1996 تولى نتنياهو رئاسة الوزراء في إسرائيل. في شباط 1997 حاولت مجموعة كوماندوس إسرائيلية على متن طوافتين عسكريتين تنفيذ عملية سرية في لبنان، ولكنهما قبل دخولهما المجال الجوي اللبناني اصطدمتا ببعضهما وتحطمتا وقتل نتيجة الحادث نحو 70 جندياً إسرائيلياً. كانت تلك أكبر خسارة مدوية تتكبدها إسرائيل منذ غزوها لبنان في العام 1982. قيل وقتها أن هذه العملية كانت مخططة لتنفذ في ليلة القدر ضد أحد المساجد في الضاحية الجنوبية وربما كانت تستهدف خطف مسؤول كبير في “الحزب”. لعب القدر لعبته وسجل الأمين العام لـ “الحزب” السيد حسن نصرالله انتصاراً على نتنياهو.
بعد خمسة أشهر فقط، في الليلة الفاصلة بين الرابع والخامس من أيلول العام 1997، قُتل 12 جندياً إسرائيلياً، من أفراد وحدة الكوماندوس البحري الإسرائيلي “شيطيت 13″، في كمين لـ “حزب الله” في بلدة أنصارية في الجنوب. تلك العملية التي بقيت سرية في أهدافها في ذلك الوقت أرادتها إسرائيل لرد الإعتبار لحادث الطوافتين ولكنها كانت مذلة لها. على أرض المعركة في أنصارية وقعت القوة الإسرائيلية المهاجمة في فخ “حزب الله” الأمر الذي كبدها خسائر فادحة أدت إلى تعليق القيام بأي عمليات مماثلة، قبل دراسة الأسباب التي أدت إلى هذه الخسائر المتتالية، وقد اضطرت لاحقاً إلى تلبية شروط “الحزب” في عملية تبادل الأسرى والجثامين مقابل جثث جنودها وأشلائهم التي بقيت في أرض المعركة.
على رغم الفارق الزمني الكبير (22 عاماً)، بين عملية أنصارية وعمليتي ضاحيتي بيروت ودمشق الأخيرتين، هناك رابط أساسي بينهما. كانت إسرائيل تستخدم الطائرات المسيرة في التخطيط لعملية أنصارية وهي لا تزال تقوم بهذه الأعمال، مع الفارق الكبير الذي دخل في عملية الرصد الجوي والطائرات من دون طيار كطائرات الدرونز التي استخدمت في الضاحية. بعد الأسرار التي أحاطت بعملية أنصارية والسبب الذي جعل “حزب الله” يكتشفها حكي عن أن “الحزب” كان قادراً على اختراق إرسال هذه الطائرات تقنياً، وقد كانت ذروة هذا الكشف عندما أعلنه الأمين العام لـ “الحزب” السيد حسن نصرالله في إطار الدفاع الإعلامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث تحدث عن تسجيلات لطائرات المراقبة الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية معتبراً أنها كانت تراقب الطرقات التي يسلكها الرئيس الحريري متهماً إسرائيل بتنفيذ عملية الإغتيال.
من نتنياهو إلى نتنياهو
في العام 1999 انتهت ولاية نتنياهو في رئاسة الحكومة من دون أن يتمكن من ردّ اعتباره. بعده كان أيهود باراك الذي كان قطع وعداً انتخابياً بالإنسحاب الكامل من الشريط الحدودي ونفذه ليكون 25 أيار من العام 2000 يوم التحرير في سجل الإنتصارات التي أعلنها “حزب الله”. ولكن باراك سقط بعد عام واحد أمام أرييل شارون الذي خرج من رئاسة الحكومة في العام 2006 إلى غرفة العناية الفائقة بعد إصابته بجلطة دماغية فخلفه إيهود أولمرت. ولكن على عهد شارون في 29 كانون الثاني 2004 نجح “حزب الله” في إنجاز عملية تبادل للأسرى مقابل جثث قتلى عملية أنصارية والعقيد الإسرائيلي الحنان تننباوم الذي نجح “الحزب” في عملية أمنية في استدراجه واعتقاله في لبنان. في تلك العملية خرج من الأسر الشيخ عبد الكريم عبيد الذي كانت قوة كوماندوس إسرائيلية خطفته من منزله في جبشيت في 28 تموز 1989 خلال المعارك بين “حركة أمل” و”حزب الله”، وخرج أيضاً مصطفى الديراني الذي كان مسؤولا عن الأمن في حركة أمل قبل أن ينشق ويلتحق بـ “حزب الله” وكانت قوة إسرائيلية خطفته أيضاً من منزله في قصرنبا في البقاع في العام 1994. في تلك المرحلة أيضا في شباط 1992 كانت إسرائيل نجحت في اغتيال الأمين العام لـ “الحزب” السيد عباس الموسوي في الجنوب بعد غارة جوية على موكبه.
في 12 تموز 2006 بعدما كان السيد حسن نصرالله قد وعد على طاولة الحوار بصيف هادئ ،جرت عملية “الوعد الصادق” ضد دورية إسرائيلية والتي أدت إلى مقتل عدد من الجنود الإسرائيليين وخطف اثنين، تبين لاحقاً أنهما مقتولان أيضا. تلك الحرب التي اعتبرها “الحزب” انتصاراً على العدو الإسرائيلي وخسارة مدوية لرئيس الوزراء أولمرت انتهت فعلياً مع صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي، الذي أنهى عملياً الحرب على الجبهة الجنوبية بين “حزب الله” وإسرائيل وحدد قواعد الإشتباك التي لا يزال الطرفان حريصين على عدم تجاوزها على رغم الحديث المتكرر عن سقوطها أحياناً.
منذ ذلك التاريخ انتقلت قواعد اللعبة إلى مصلحة إسرائيل. في 12 شباط من العام 2008 نجحت وحدة استخبارات إسرائيلية في اغتيال القائد العسكري والأمني لـ “حزب الله” عماد مغنية في حي كفرسوسة في دمشق بعد خروجه من أحد المطاعم من خلال تفجير عبوة ناسفة كانت مخفية في إطار سيارة جيب. كان “الحزب” يعتقد أن الساحة السورية تشكل شبكة أمان له ولكن العملية تلك أظهرت أنها ساحة مكشوفة ومخترقة. وعد “الحزب” بالإنتقام لقائده ولكنه منذ ذلك التاريخ لم ينجح في رد الضربة وإن كان لا يزال على ذلك الوعد. حكي عن مجموعات أرسلها إلى الخارج للرد وعن اكتشاف خلية تابعة له في بلغاريا وأخرى في قبرص. كانت تلك العملية تعويضاً لأولمرت عما لحقه في حرب تموز ولكنها لم تمنع سقوطه ليعود بعده بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة ويبقى فيها منذ العام 2009 ليخوض اليوم معركة البقاء فيها ويسجل رقماً قياسياً في تولي هذا المنصب في الدولة العبرية.
من سمير القنطار إلى مصطفى بدر الدين
في 16 حزيران 2008 فرض “حزب الله” على إسرائيل عملية تبادل للأسرى ونجح في إطلاق اللبناني سمير القنطار الذي كان معتقلاً في السجون الإسرائيلية منذ شارك في تنفيذ عملية فدائية في نهاريا في 22 نيسان 1979. بعد ستة أعوام كان القنطار قد انتقل إلى سوريا لمتابعة “عمله الجهادي” تحت راية “حزب الله” الذي انخرط في الحرب السورية التي اندلعت في 15 آذار 2011 ولا تزال مستمرة وقد تكبد فيها “الحزب” خسائر كبيرة في صفوفه محاولاً أن يستعيض عن قواعد الإشتباك في جنوب لبنان بقواعد مواجهة جديدة انطلاقاً من جبهة الجولان في سوريا ولكن إسرائيل في ظل رئاسة نتنياهو للحكومة نقلت الحرب أيضاً ضد “الحزب” إلى سوريا.
في 18 كانون الثاني من العام 2015 نجحت إسرائيل في اغتيال جهاد ابن عماد مغنية عندما استهدفت من الجو موكباً تابعاً لـ “الحزب” في القنيطرة السورية وقد قتل في هذه العملية أحد قيادييه محمد أحمد عيسى (أبو عيسى) وجنرال إيراني. وعد “الحزب” بالرد سريعاً على هذه العملية ولكن من دون كسر قواعد الإشتباك. اختار بركة النقار في مزارع شبعا ليستهدف دورية إسرائيلية بعدد من الصواريخ ويصيب عدداً من الآليات العسكرية ويقتل جنديين إسرائيليين ويجرح سبعة. إسرائيل أيضاً لم تكسر قواعد الإشتباك. اعتبرت أن الرد لا يخرج عن هذه القواعد. بقي وقف إطلاق النار محترماً في لبنان عند الحدود الجنوبية ولكن اطلاق النار استمر في سوريا. في 19 كانون الأول 2015 نجحت إسرائيل في اغتيال سمير القنطار في غارة صاروخية استهدفت المكان الذي كان يختبئ فيه في بلدة جرنايا قرب دمشق. أيضا وعد “حزب الله” بالرد ولكن من دون كسر قواعد الإشتباك. تابعت إسرائيل عملياتها. في 13 ايار 2016 تم اغتيال القائد العسكري لـ “حزب الله” في سوريا مصطفى الديراني المتهم بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والذي كان يعتبر أنه القائد الفعلي بعد اغتيال عماد مغنية. البيان الأول الذي أصدره “حزب الله” حول عملية اغتياله أشار إلى قذيفة مدفعية أصابت البناء الذي كان موجوداً فيه قرب مطار دمشق. المعلومات تحدثت عن أنه كان قد أنهى اجتماعاً مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس. أيضاً لم يكسر هذا الإغتيال قواعد الإشتباك المعمول بها في ما بدا أنه استمرار لحرب أمنية مفتوحة نجحت فيها إسرائيل في اختراق الساحة السورية واستهداف أكثر من هدف تابع لـ”حزب الله”. لم تكتف إسرائيل بهذه العمليات. بالتنسيق مع روسيا المساهمة في دعم النظام السوري يقال أنها نجحت في فرض ابتعاد قوات إيران وحزب الله عن حدودها نحو 45 كلم. ولكن هذا الأمر لم يمنع الحزب وإيران من محاولة اختراق الأجواء الإسرائيلية عبر الطائرات المسيّرة فوق جبهة الجولان. وربما كانت العملية الأخيرة في عقربا وفي الضاحية تدخل ضمن إطار هذه المواجهة المفتوحة. كما في العمليات السابقة أعلن الأمين العام لـ “حزب الله” أن “الحزب” سيرد.
العين بالعين
أنها الحرب المفتوحة بين “حزب الله” وإسرائيل التي يحاول فيها “الحزب” القول أنه نجح في تحقيق توازن الرعب والردع وأنه قادر على أصابة أي هدف داخل فلسطين المحتلة، وأنه يملك قاعدة معلومات والعدة اللازمة لذلك بواسطة الصواريخ الموجهة والدقيقة أو الطائرات المسيّرة على طريقة الطائرات التي يستخدمها الحوثيون في اليمن لاستهداف المملكة العربية السعودية والإمارات. ولكن هل ينجح “الحزب” هذه المرة في تخطي قدرة الدولة العبرية على إفشال هذه المحاولات؟ وهل يكشف الرد حقيقة اتهام اسرائيل لـ “الحزب” بأنه يعمل في لبنان على تطوير صواريخ دقيقة موجهة؟
قبل 32 عاماً وتحديداً في 25 تشرين الثاني 1987 نجحت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة” في اختراق الدفاعات الإسرائيلية في جنوب لبنان وتخطت الشريط الحدودي في عملية “شهداء قبية”، عندما انطلقت من داخل لبنان أربع طائرات شراعية نجحت واحدة منها في بلوغ هدفها داخل إسرائيل وكان يقودها شاب سوري، خالد محمد أكر، استطاع أن يصل إلى منطقة الهدف في “معسكر غيبور” في الشمال الفلسطيني ويتمكن من قتل ستة جنود إسرائيليين قبل أن يقتل. هل تنجح طائرات “حزب الله” المسيّرة اليوم في تنفيذ مهمة مماثلة على قاعدة العين بالعين والسن بالسن وقتل جنديين إسرائيليين مقابل العنصرين التابعين له؟ لا شك في أن مصداقية السيد حسن نصرالله أمام اختبار دقيق خصوصاً بعد تهديداته المتكررة بنقل المعركة إلى أرض العدو. ولا شك ايضاً في أن الحرب ستستمر بينه وبين نتنياهو وأن إطلاق النار الحاصل بين سوريا ولبنان سيبقى تحت سقف اتفاق وقف إطلاق النار المعمول به منذ آب 2006.