تنشط القوى الأصولية المتشدّدة، أو ما تبقّى منها حاضراً ومتنفذاً في مواقع السلطة والقرار، في عملية مدروسة الأدوار «لرسم حدود متماسكة» تحدّد حركة الرئيس حسن روحاني ومحاصرته، حتى لا يذهب بعيداً في تنفيذ سياساته المعتدلة والوسطية الجانحة بحكم انتخابه من الدورة الأولى بنسبة عالية جداً. الهدف إيصاله إلى حالة من الجمود العاجزة عن تحقيق «إصلاحاته». ما يجري الآن تكرار لما جرى مع الرئيس محمد خاتمي في ولايته الرئاسية.
مسارات الحركة السياسية في إيران، تؤشّر علناً وبشكل واضح جداً، إلى أن تكرار الحالة «الخاتمية»، يجعل «الروحانية» نسخة عنها، متعثّرة وفاشلة. هذا التطوّر لا يعود إلى شخصية حسن روحاني، فهو ليس أقوى من محمد خاتمي الذي رغم منعه رسمياً من الظهور حتى بالصور واليافطات ما زال قوياً، وهو عملياً زعيم «الجبهة الإصلاحية» وأقوى شخصياتها. الوضع اختلف. إيران اليوم في العام 2017 مختلفة جداً عن العام 1997 وما بعدها.
«جبهة الأمل» التي تدعم روحاني أقوى بكثير وتضم مروحة واسعة جداً من يسار الإصلاحيين إلى يمين المتشدّدين (مع التحفّظ في التعبير وما بينهما من الوسطيين والمعتدلين).
معركة التجديد لرئيس مجلس الشورى تؤكد ذلك. المرشح علي لاريجاني فاز بأغلبية مطلقة، لكن الأصح أنه نجح في إبعاد المتشدّدين عن مكتب المجلس، ونجح علي مطهري (حصل على 163 صوتاً في حين حصل خصمه المتشدّد على 107 أصوات) الذي قاد حملة جريئة لإطلاق سراح مهدي كروبي ومير حسين موسوي، ولم يتراجع رغم الاعتداء الجسدي عليه.
الأهم أن جبهة الأصوليين المتشدّدين ضمرت وتراجعت كثيراً، بعكس ما كانت عليه طوال العقدَين الماضيين. وقد وصل الأمر بأحمدي نجاد الى القول علناً: «النتائج أثبتت بأن التيّار الأصولي ميت ولم يبقَ منه شيء». طبعاً لأحمدي نجاد حق الثأر على هذا التيّار الذي قَبِلَ بإبعاده حتى عن الترشّح للانتخابات، لكن كلما تقدّمت «جبهة الأمل»، تراجعت القوى المتشدّدة وضمر تأثيرها على تشكّل السلطة الجديدة.
الأهم من كل ذلك، أن المرشد آية الله علي خامنئي اليوم ورغم عدم تغيّر القوانين التي تعطيه حق الولاية المطلقة، ليس كما كان قبل أقل من عامَين. خامنئي «عميد القادة» والزعماء في العالم أدار السلطة ببراعة العارف والخبير بكل مراكز القوى والتأثير، لذلك نجح في الاستمرار وفي المحافظة على النظام. هذه الخبرة وهذه المعرفة، دفعتاه خلال الحملة الانتخابية إلى الأخذ في الاعتبار التحوّلات العميقة لدى مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، وذلك لأن غالبية الشعب الإيراني من الشباب (70 في المئة من أصل 80 مليون نسمة تحت سن 35) حاجاته وبالتالي مواقفه مختلفة جداً عن «شعب الثورة». لذلك كما أصبح واضحاً الآن أكثر من قبل أن المرشد خامنئي الذي استقدم ابراهيم رئيسي من مشهد و«فرضه» المرشح الأقوى بين المتشدّدين، عاد وخفّف قبضته ولم يقف في وجه «تسونامي» التغيير. السؤال الآن: كيف سيقود خامنئي «السفينة» الإيرانية؟ هل سيتابع النهج الداخلي الذي خطّه ونفّذه في الحملة الرئاسية، أم أنه سيعمد إلى «الانقلاب» على نتائج العملية، لأن في قلب المسار توجد «صخرة» خلافته عاجلاً أو آجلاً؟
المرشد آية الله علي خامنئي، يعرف بدقّة عمق الأزمة الاقتصادية التي بدأت تثير «رياح الرفض والاحتجاج» الشعبي. وهو يعرف ويتابع تطور انعكاس المقاطعة والحصار الاقتصادي، رغم مكابرته ومعرفته بضعف حجة «الاقتصاد المقاوم». وبطبيعة الحال فإنه وهو واضع استراتيجية إقامة «الهلال الشيعي» ومن ثم مدّ وتعبيد «الطريق» من الحدود الإيرانية إلى دمشق عبر العراق، قد كلّف ذلك كثيراً إلى درجة أن التقارير غير المعادية تؤكد أن إيران تنفق على الحرب السورية حوالى 9,3 مليار دولار، أي ما يعادل قيمة عجز الموازنة الإيرانية، وأن الحكومة الإيرانية وفق صندوق النقد الدولي الأخير مُدِينة للنظام المصرفي الإيراني بمتأخرات تصل نسبتها إلى 10,2 من الناتج المحلي، وأن الحكومة عاجزة عن تمويل متأخّراتها وإعادة رسملة المصارف المفلسة (بدأت موجتها عام 2006 وآخرها قبل أيام مؤسسة «كاسبين» التي دفعت المتأثرين بالإفلاس إلى التجمّع والتظاهر أمام المصرف المركزي). الخطر في هذا كله، أن «النزيف» مستمر ويتزايد، وأن سوق العمل العاجزة عن تلبية حاجات شرائح الشباب العاطلين عن العمل، يتعمّق عجزها مع قدوم شرائح واسعة من الشباب إمّا تخرّجت، أو أنها ستتخرّج في الأعوام القليلة المقبلة.
مقاومة مسار التغيير قوية والأرجح أنها ستكون شرسة، لأن قوى عديدة بنت سلطتها ومواقعها وكسبت في أحيان كثيرة ثروات بعضها خيالي، لن تتنازل عن مكاسبها بسهولة. أقوى تلك القوى «الحرس الثوري» المستفيد الأول في السلطة والاقتصاد من سياسة «الهلال الشيعي» والمواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية. لذلك يجب مراقبة أي تغيير في القيادات (من الملاحظ والمثير للانتباه أن الجنرال محمد جعفري قائد الحرس الثوري قد اختفى عن الواجهة منذ أكثر من شهر ونصف الشهر علماً أنه كان داعية كبيراً للاستعداد للحرب مع دول جارة المقصود بها السعودية).
فوز حسن روحاني و«جبهة الأمل» في مواجهة المتشدّدين، مهم وضروري لإيران، وهو ملحّ جداً لإخراج المنطقة كلها من عملية الاستنزاف الطويلة والخاسرة للجميع من إيران إلى سوريا والعراق واليمن. جزء أساسي ومهم في تغيير المعادلات في الجمهورية الإسلامية في إيران بيد المرشد آية الله علي خامنئي فهل يقدم على ذلك بقوّة وجرأة؟
مستقبل إيران والمنطقة في «عين الإعصار».