Site icon IMLebanon

بين حكمة الرئيس في الإنقاذ.. وصبيانية الكيدية والإستفزاز

 

أسبوعان ونيّف على إندلاع الإنتفاضة الوطنية الشاملة، وأسبوع على سقوط الحكومة بعد إعلان إستقالة رئيسها، والحكم ما زال يتخبط في خطواته المترددة في التصدي لهذه التطورات المتسارعة، ويؤجل إجراء الإستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف بتأليف الحكومة العتيدة، من أسبوع إلى آخر، وكأن الإحتقان المهيمن على الشارع الثائر يحتمل هذا الترف المتمادي في التأجيل والتسويف والمناورة، دون أدنى إعتبار للأخطار المحدقة بالبلد، أمنياً وإقتصادياً ومالياً.

 

علمتنا التجارب اللبنانية المريرة، أنه في مثل هذه الأزمة التي داهمت البلد، وأدت إلى قلب معادلات الحكم رأساً على عقب، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام شتى التحديات بين الفريق الحاكم والأكثرية الساحقة من اللبنانيين، أن أساليب القمع والإستفزاز لا تنفع في تهدئة الغليان، ولا تُفيد محاولات اللف والدوران على المطالب الشعبية، كما أن سياسات العناد والكيدية تُفاقم الأزمة، وتُعقد تشابكاتها، وتُبعدها عن طريق الحلول الملائمة والمنشودة.

 

وتاريخ الأزمات في لبنان حافل بدروس وعبر تحذر من مغبة ومضاعفات التهاون في البحث عن المخارج سريعاً، على إعتبار أن تسريع الحل يُخفف من التعقيدات والأثمان المترتبة عليها، وأنه كلما تأخرت المعالجات المناسبة تزايدت الأضرار، وإرتفعت الأكلاف الباهظة.

 

كما أن تجاهل أسباب المشكلة، وإهمال المطالب المحقة، من شأنه أن يُضاعف موجات الرفض والغضب، ويحوّل الإضراب، مثلاً، إلى حركة تمرد وعصيان تُحاكي منطق الثورات وعنفها.

 

ومن دواعي القلق الوطني الكبير، أن الحكم ما زال يتعامل مع تطورات الإنتقاضة ومطاليبها، بأسلوب لا يوحي بأنه مستوعب لدروس التجارب اللبنانية المؤلمة، وما تقتضيه الحكمة من تبصر في الأخطار المتعاظمة في حال إستمرار الواقع المتردي في مختلف المجالات الأمنية والسياسية والإقتصادية، وضرورة الإبتعاد عن سياسات العناد والإستفزاز في التعامل مع الشركاء في الوطن، وفي إستيعاب موجات الإحتجاج والغضب التي فجرتها ساحات الإنتفاضة في إجماع لبناني نادر المثيل.

 

على ضوء هذه المعطيات، وما تقتضيه من معايير، يمكن القول أن تظاهرة التيار الوطني الحر أمس إلى بعبدا لم تكن خياراً صائباً، بل أظهرت الرئيس الذي يحرص أن يكون «بيّ الكل»، وكأنه زعيم مجموعة حزبية تشكل أقلية من المواطنين، ويرفعون شعارات تتحدى مطالب وحراك الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.

 

ليست هناك سابقة لبنانية تقضي بمغادرة رئيس الجمهورية مركزه قبل إنتهاء ولايته، مهما تدهورت الأوضاع السياسية والأمنية في عهده. هذا ما حصل مع الرئيس كميل شمعون في نهاية ولايته التي شهدت «ثورة ١٩٥٨»، وما تكرر مع الرئيس سليمان فرنجية الذي إندلعت حرب ١٩٧٥ إبان عهده، وبقي الرئيس الياس سركيس في قصر الرئاسة رغم تصاعد الحرب خلال حكمه، وحصول الإجتياح الإسرائيلي في السنة الأخيرة من رئاسته، وصولاً إلى الرئيس أميل لحود الذي إندلعت ثورة الأرز إثر إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعد أشهر من تمديد ولايته، فكان أن عارض «بطريرك الثورة» الراحل مار بطرس صفير مطلب قوى ١٤ آذار بتنحية رئيس الجمهورية، حتى لا تكون سابقة يسهل تكرارها مع غيره لاحقاً.

 

إذن لا خطر على رئاسة العماد ميشال عون، قياساً على المعطيات السابقة، حتى يتم تنظيم تظاهرة من الأنصار والحزبيين لدعم رئيس الجمهورية في موقعه. بل لعل العكس هو الذي حصل حيث ظهر أمام الرأي العام اللبناني والإعلام الخارجي، وكأن رئاسة عون مهددة بالإنهيار فهبّ الحزبيون للتوجه إلى بعبدا لتقديم الدعم!

 

إعتراف رئيس الجمهورية والقوى السياسية الحليفة، لا سيما حزب الله، بعدالة وأحقية المطالب التي رفعتها جماهير الإنتفاضة، من مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين وإسترداد الأموال المنهوبة، وحق اللبنانيين بحياة كريمة، تؤمن التعليم والطبابة والإستشفاء، وتعالج مشكلة البطالة التي بلغت أرقاماً فلكية في البلد، أعطت الحراك الشعبي شرعية وطنية، وفرضت على اهل الحكم في الوقت نفسه التعاطي بجدية لتلبية ما يمكن من هذه المطالب، ولو من خلال الورقة الإصلاحية، التي أقرها مجلس الوزراء تحت ضغط الإنتفاضة، أو بما هو أبعد من ذلك، عبر الإسراع في تشكيل الحكومة العتيدة من فريق عمل منسجم، يضم نخبة من أهل الخبرة والإختصاص، ليتمكن من وضع خطة إنقاذية قادرة على إقفال مزاريب الهدر والفساد، وإخراج البلاد من النفق الإقتصادي المظلم، وتجنب المزيد من التداعيات المالية والنقدية السيئة على البلاد والعباد.

 

إعتماد بوصلة الإنقاذ تتطلب الكثير من التبصر والحكمة من قبل الرئيس، بعيداً عن صبيانية الكيدية والعناد والإستفزاز من أقرب المقربين إليه!