كما لو أنهم يشاهدون برنامج «توك شو» سياسي لبناني. قضاة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بدوا كـ«جمهور»، أتى به معدّو البرنامج، ليمنحوه فرصة طرح السؤال على الزعيم الملهم من وقت لآخر. يتكثّف هذا الدور مع القاضيين اللبنانيين وليد العاكوم وميشلين بريدي. «وليد بيك». بهذه الصفة خاطب ممثلا لبنان في هيئة المحكمة، الشاهد وليد جنبلاط. نبرتهما توحي أحياناً بأنهما يقفان على مدرج الجمهور في ستوديو «كلام الناس» مثلاً.
واحياناً اخرى، كما لو انهما في حضرة البيك في قصره في المختارة. كالقضاة والضباط والموظفين الذين يحجون إلى مجلس الزعيم الوطني، طالبين الرضى، ومقدّمين فروض الطاعة. البيك أقل «نزقاً» مما يكون عليه بين المريدين. يشعر بالضيق أحياناً فيكرر لازمته المعهودة: «لا أكثر ولا أقل». لكنه مزهو بالوقوف امام رجل أبيض، فلا يفوّت فرصة للظهور في مظهر «كاره الذات». يتحدّث بازدراء عن قادة الشرق، وعسكريي الشرق. يريد القول لـ«السيد» دايفيد راي «لستُ مثلهم». يذمّ الشرق ويبتسم متطلعاً إلى رئيس المحكمة كمن يتوقع نظرة الـ«برافو عليك». وفي حضرة محكمة كهذه، جاد جنبلاط بما في جعبته. مشكلته مع العسكر في لبنان أنهم ليسوا ديمقراطيين ولا يحترمون حقوق الانسان. ووليد بيك حساس للغاية تجاه هذه القضايا. ديمقراطي على الطريقة السويسرية، ويحترم حقوق الانسان على المذهب الاسكندينافي. تاريخه شاهد. من الوراثة والتوريث، إلى استشارة الشعب في كل صغيرة وكبيرة، إلى حرصه على تحديث قوانين الانتخابات، واحترامه للرأي الآخر. المناقب في هذا المجال أكثر من أن تُحصى. اما حقوق الانسان، فحدّث ولا حرج. لم يضطر في محكمة لاهاي ان يكرّر تلك العبارة التي قالها يوماً في وثائقي «حرب لبنان» لتبرير المجازر التي ارتكبها في الحرب الأهلية: «كان لا بدّ من غزو، فغَزَونا، هم غزوا ونحن غزونا». وليد بيك ليس غازياً أمام الرجل الأبيض. بل حريص على حقوق الانسان. ولذلك يكره العسكر. كان مرتاحاً كما لو ان معدّ «البرنامج» اطلعه مسبقاً على الأسئلة والمحاور. لكن لا مانع من بعض التبرّم. يرمي لطشات يظن أنها ستعجب الجمهور. يرفع سياسياً ويحط من قدر آخر. يشمئز من لغة التخوين، وهو المطالب بتعليق المشانق. يرفض تشبيه السجال السياسي بينه وبين معارضي القرار 1559 ومؤيدي التمديد للرئيس إميل لحود قبل اغتيال الحريري، بالصراعات التي خاضها والده مع سياسيي عصره. هو مطمئن إلى ان احداً لن يقول له إن والده قال (علناً) عن الرئيس صائب سلام في 13 آذار 1972: «سلام زقاقي قزم مريض عميل غدّار باع الحولة لليهود وابتلع اموال ثورة 1958، واستغل المقاصد وقبض ثمن الغدير 3 مرات». هذا ما نشرته جريدة «النهار» في مانشيتها يوم 14 آذار 1972. وبعدها بثلاثة أيام رد سلام واصفاً كمال جنبلاط بـ»المخرّب والإقطاعي والاشتراكي الزائف والدجال والمتقلب والمهرج» (مانشيت النهار يوم 17 آذار 1972). «الجمهور» على قوس المحكمة الدولية لن يتصرّف مع جنبلاط إلا كمُقدّم برنامج تلفزيوني في لبنان، لا يريد إغضاب البيك أملاً في تكرّمه عليه بلقاء آخر في الموسم التالي. المحكمة التي تزعم بأنها تعتمد «أعلى معايير العدالة الدولية» سجّلت في استماعها إلى شهادة وليد بيك سابقة تُحفَظ في سجلها كواحدة من اهم إنجازات «عدالة» محاكم ما بعد الحرب الباردة. للمرة الاولى، يعتمد الادعاء العام شاهداً (غير متهم، وغير مستفيد من صفقة مع الادعاء)، فيما هو مقرّ بمسؤولية «جزئية» عن ارتكاب جرائم «تطهير ديني»، بحسب ما نسبت له صحيفة «لوس انجلس تايمز» في العشرين من كانون الأول 1993. وإفادته واحدة من الشهادات التي يريد الادعاء العام في المحكمة استخدامها للقول إن طرفين في لبنان لا ثالث لهما يملكان القدرة على تنفيذ اغتيالات. وهنا أيضاً، لن «ينكأ» أحد من «جمهور» قوس المحكمة «الجراح» ليسأل جنبلاط عن أسماء يعرفها اللبنانيون جيداً: محمد شقير، صبحي الصالح، تفجير كنيسة الوردية… لن يخدش «الجمهور» عفّة نظام العدالة. لن يُمسّ بـ»مراق» البيك. لن يخرج أحد عن النص. فوليد جنبلاط ليس كومبارس. هو خير شاهد لعدالة كهذه.