كنت في السابعة عشرة من عمري، حين نزل الخميني من طائرة الخطوط الفرنسية على أرض طهران، قادماً من باريس.
لم تكن معرفتي السياسية المحدودة حين ذاك، في عمري اليافع، تساعدني على الالتفات إلى تفاصيل الرحلة: الشركة الناقلة، جهة القدوم، جهة الوصول، طاقم الطائرة الفرنسي الذي اتكأ عليه الشيخ عند هبوط السلم!
انقسم الناس من حولي، في ذلك اليوم من العام 1979، إلى ثلاثة أقسام:
فئة طبّلت لانتصار الثورة الإيرانية الإسلامية، وأنها ستكون منعطفاً في حلول مشكلات العالم الإسلامي، خصوصاً في محورين هما: خلق التوازن الإسلامي مع الغرب، وتحقيق آمال العرب بتحرير فلسطين.
فئة أخرى قرعت طبول الحرب في التحذير من المدّ القادم، سواء من حيث منطلقاته القومية (الفارسية) أو المذهبية (الشيعية).
الفئة الثالثة لم تطبّل للخميني ولم تقرع طبول الحرب منه، بل اعتبرت أن الحدث لا يستحق كل هذا التهويل، المتفائل أو المتشائم، فالمسألة لا تعدو أن تكون انقلاباً أسقط زعيم دولة وجاء بزعيم بديل، كما حدث في بلدان مجاورة كثيرة.
والآن، بعد مرور ٣٧ عاماً على الثورة الإيرانية، كيف يمكن تقويم دقّة وصوابية تلك المواقف الثلاثة؟
أما الفئة الثالثة التي ظنت أن الثورة ستكون حدثاً انقلابياً عابراً، فهي بلا شك خارج حسبة التقويم الآن، إذ لا حاجة لإثبات خطأ توقعاتها الهادئة حينذاك!
سيبقى التقويم والفحص مشروعاً بين فئة التبشير وفئة التحذير.
الطريقة الوحيدة لفحص دقّة الموقفَين هي من خلال القيام بما يشبه «جَرْدة حساب» للأعمال التي أحدثتها الثورة الإسلامية الإيرانية في إيران، وفي العالم الإسلامي، وفي العالم في شكل شامل.
منهجياً، أدرك بأن هويّاتي الكبرى والصغرى ستؤثر في قياسي وتقويمي، لكني سأحاول تقليص أثر هوياتي الصغرى، فيما سأتمسّك بتأثير هوياتي الكبرى: الإسلام والعروبة، لأنها مرجعية أساسية في التقييم.
أولاً، لنبدأ بالداخل الإيراني، ولن أطيل لأني لا أريد أن أكون إيرانياً أكثر من الإيرانيين:
هل أصبحت إيران الخميني أكثر تقدماً وتنميةً واستقراراً من إيران الشاه؟
هل تحركت عجلة التصنيع وتنوعت مصادر الدخل في إيران الثورة، أم أنها ما زالت تعتمد على النفط في شكل رئيس، كما كانت قبل الثورة؟
هل تبدّلت أحوال المواطن الإيراني عما كانت عليه أيام الشاه؟ لا أعني هنا الأحوال الوجدانية التي ربما تُشبعها الشعارات الثورجية في الشوارع والساحات، بل الأحوال الحياتية من حيث مستوى المعيشة والتسهيلات والخدمات التي تعبّر في شكل أكبر عن اهتمام النظام الحاكم بكرامة الإنسان أكثر مما تُحدثه الشعارات!
ثانياً، في العالم الإسلامي:
هل ساهمت الثورة «الإسلامية» الإيرانية في زيادة وحدة المسلمين وتكاتفهم وترابطهم، بين أنفسهم أولاً، ثم أمام خصومهم الحقيقيين أو المحتملين؟
وهل أسهمت الثورة «الإسلامية» في نشر الإسلام والدعوة إليه؟ أم أن برنامج «تصدير الثورة» قد انشغل عن دعوة غير المسلمين بدعوة المسلمين للتحوّل من مذهب إلى مذهب، أو كما عبّر بعض دعاتهم الغلاة بأنه دخولٌ إلى الإسلام من جديد!
ألم تؤدِّ هذه الدعوة المذهبية إلى انقسامات وفتن داخل البلد الإسلامي الواحد، وبين الشعب المسلم الموحّد من قبل؟
ألم تُسهم فلول الثورة الإيرانية في إحياء فتنة عمرها أكثر من ١٤٠٠عام، لا لتفكيك ضغائنها التي كادت تخبو، بل لإشعالها من جديد، وتأجيج خصومات دينية/ تاريخية عبر نشر طقوس فانتازية تتنافى مع عقل ومنطق القرن الحادي والعشرين! (راجع كتابي: من هو عدوّنا في إيران؟!).
ثالثاً، في المذهب الشيعي:
قد تبدو للبعض سلامة التأكيد المطلق بأن الثورة الإيرانية قد خدمت المذهب الشيعي.
الثورة بلا شك ساهمت في شكل كبير في انتشار المذهب الشيعي، لكن هل كل انتشار لفكرةٍ ما، أيّاً كانت صيغته ومضامينه وأهدافه، هو بالضرورة خادمٌ لجوهر الفكرة؟!
ألا يوجد من عقلاء الشيعة اليوم من يأنف ويرفض الملابسات التي أحدثتها الثورة الإيرانية في المذهب الشيعي، مثلما يوجد من عقلاء السنّة من يأنف ويرفض ما أحدثته حركة جهيمان وتبعات الجهاد الأفغاني في صورة الإسلام السني؟!
رابعاً، في العالم العربي:
هل تحررت فلسطين، كما كانت تخدعنا خطابات الثورة الإيرانية بالوعود؟
بل هل يتذكر العرب، الذين عوّلوا على ذلك كثيراً، أيّ موقف أو إجراء أو تحرّك أو قرار اتخذته إيران الثورة خلال الـ٣٧ سنة الماضية تجاه مناصرة فلسطين أو القدس أو المسجد الأقصى؟!
لم تُطلق إيران «الثورية» رصاصة واحدة في وجه إسرائيل، لكنها فعلت ذلك كثيراً في وجه العراق ولبنان وسورية واليمن والبحرين، وفاخَر زعماؤها العسكريون باحتلالهم أربع عواصم عربية، وسعيهم لاحتلال المزيد من المدن العربية باسم الثورة الإسلامية!
وبعد أن تمّ تحطيم العراق ومسخ سورية واختطاف لبنان والعبث باليمن، بيد الفلول الخمينية من العرب وغير العرب، هل يمكن القول اليوم أن حالة العالم العربي بعد الثورة الإيرانية لم تزدد سوءاً؟!
غنيٌّ عن القول أن العواصم العربية الأربع (المتأيرنة الآن) كانت تعتبر زهرة الدنيا وحواضر العالم العربي، في حين أورثها النفوذ والتغلغل (الاحتلال) الإيراني التخلف والدمار وانتكاسة القيم وهروب العقول النابغة واستعار حمّى الاغتيالات بسبب صراع الأيديولوجيا.
وبعد أن عاش الوطن العربي قروناً طويلة من الوئام بين مسلميه ومسيحيّيه وسنّته وشيعته، أصبح العربي المسلم الآن يتعايش مع العربي المسيحي، بينما لا يطيق فعل ذلك مع المسلم الذي يخالفه المذهب. أي أن إيران «الإسلامية» نجحت في بث الفرقة المذهبية بين المسلمين كما لم تنجح القوى الاستعمارية في بث الفرقة الدينية بين العرب!
خامساً وأخيراً، لنفحص حالة العالم في شكل شامل:
هل كانت شعوب العالم، قبل الثورة الإيرانية، تعرف من الإسلام غير الإسلام فقط، ثم أصبحت بعد الثورة «الإسلامية» تعرف إسلامين اثنين أو أكثر؟
وهل تحسنت الصورة النمطية عن الإنسان المسلم في العالم بعد الثورة «الإسلامية» الإيرانية أم ازدادت سوءاً؟! ولا أُغفل هنا تأثير حوادث أخرى موازية أو متقاطعة، كالحركة الجهيمانية وحركات الغلو الجهادية كـ «القاعدة» و «داعش»، في صنع الصورة النمطية الجديدة للمسلم. لكني أيضاً لن أتغافل التأثير الذي أحدثته، وإن في شكل غير مباشر، مسيرات التحريض وخطابات الكراهية التي تتكرر في المناحات الدينية السنوية التي تقام في المدن الإيرانية والمدن العربية المشابهة لها.
وفي سؤال ختامي موجز:
بعد مرور أربعة عقود على قيامها وبمراجعة أفعالها و «إنجازاتها»، هل الثورة الإسلامية الإيرانية خدمت الإسلام أم إيران؟
قد يتدخل مواطن إيراني في الإجابة، ليقول: لم تخدم أيّاً منهما!