تُظهر الأزمة المتعلقة بمستقبل الاتفاق النووي مع إيران مدى ارتهان المنظومة الدولية برمتها إلى المزاج الصادر في الولايات المتحدة. لا يتوافق أمر ذلك مع النظريات التي استعجلت الحديث عن تراجع القطبية الواحدة لمصلحة قطبيات جديدة تمثل الصين وروسيا أبرز واجهاتها.
وتُظهر الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة على أوروبا وكندا والصين ودول أخرى مستوى المبادرة التي تمتلكها واشنطن في تغيير قواعد اللعب الدولية خصوصاً مع من يعتبرون حلفاء، فيما تلهث الدول المتضررة من نزق الرئيس الأميركي دونالد ترامب لارتجال ردود فعل مضادة لا تجرؤ على تجاوز حدود الفعل الأميركي.
وفي السجال الدائر حول كيفية المحافظة على الاتفاق النووي مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة، تبدو كافة الدول الأخرى الموّقعة على اتفاق فيينا الشهير عام 2015 بما فيها إيران، مدركة لمحدودية هامش المناورة كما لعدم اكتراث الإدارة الأميركية لكافة الجهود التي يدّعي الأوروبيون بذلها ولكل المواقف المُملّة لكل من موسكو وبكين.
على هذا يتّضح أن المجموعة التي وقّعت على الاتفاق النووي فعلت ذلك لأن إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أرادت حياة لهذا الاتفاق، وبالتالي فإن بقاء الاتفاق أو عدمه رهن برغبات واشنطن وحدها في ذلك من دون غيرها. وعلى هذا أيضاً يكشف اجتماع فيينا الذي جمع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا وإيران في السادس من هذا الشهر أنه يشبه جلسات تحضير الأرواح المغلقة التي تدّعي السعي للتكلم مع الأموات، لا لأن الاتفاق قد مات، بل لأن إمكان بعثه حياً يحتاج الإيحاء لطهران وواشنطن أن هناك مساعي جدية لنفخ الروح فيه.
يسهل ملاحظة أن العالم في حالة تحوّل كبرى، وأن عنصر المفاجأة يتّسم بمستوى عال يمقته حرفيو الاستشراف. لم تعد خطوط الاصطفافات التقليدية واضحة بين شرق وغرب. يتعامل رجل البيت مع كندا وأوروبا منتهجاً سلوكاً يليق بما ينتهج عادة في التعامل مع الأعداء. يبدو للمراقب أن اندفاع ترامب نحو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوازي ابتعاده عن زعماء باريس ولندن وبرلين. ويتضح أن مقت ترامب للاتحاد الأوروبي يوازي وقد يتجاوز الحقد الذي يكنّه رجل الكرملين لنفس الاتحاد. وعلى هذا فإن كافة اللاعبين يسعون إلى خفض مستوى المفاجآت والسعي ببلادة للحفاظ على الموجود في ظل عجز دولي عام على التعامل مع ظاهرة ترامب التي ما زالت العواصم، وربما مخطئة، تعتبرها عرضية زائلة مضادة للطبيعة.
وفق هذا اللغط الجماعي تستفيد طهران من هذا «الحنان» الذي صدر في فيينا للتمسك بالاتفاق النووي. والحقيقة أن تلك العواصم الحنونة ليست مهجوسة بهذا الاتفاق بقدر اضطرارها لاستخدام قضيته في ورشة المناكفة الجارية ضد واشنطن في قضايا أخرى أكثر حيوية. يكاد موقف روسيا من هذه المسألة الذي عبر عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف يحمل ماء إلى واشنطن في معرض سقاية أرض الاتفاق الجافة. عين موسكو على قمة هلسنكي المقبلة التي ستجمع ترامب ببوتين والتي لا شك تشكل ضربة كبرى لكل الصخب الأوروبي الأخير ضد روسيا وزعيمها.
قد تبدو المداولات حول جنوب سورية مثالاً صارخاً لهذا التشكّل الجديد الذي يرتب أمور الدنيا على نمط لا يبدو أن أوروبا منخرطة به. تمثّل سورية علّة أوروبية تهزّ أركان نظم سياسية وتدفع الشعبوية والتطرف نحو الحكم، فيما يجري ترتيب مستقبلها في غرف مغلقة أميركية- روسية- إسرائيلية تنسق مع تركيا. على هذا تلتحق العواصم الأوروبية بتلك العربية المعنية بالشأن السوري بالوقوف على قارعة القرار من حيث أن تفاهمات هي قيد الإنضاج بين موسكو وواشنطن وما على تلك العواصم إلا أن تلتحق بقطار التسوية، وربما تحمّل العبء المالي الباهظ لهذه التفاهمات، من دون أن تتوافر بدائل أخرى يمكن النقاش في شأنها.
وفق ذلك تتم تهيئة إيران للامتثال لهذا الواقع الجديد. واضح أن طهران تزحف نحو المفاوضات مع الولايات المتحدة متنقلة من استحقاق دولي إلى آخر مستنتجة أن همّة وزير الخارجية محمد جواد ظريف بين العواصم تنحصر في التقاط الرسائل والإشارات التي تفيد أن العالم بأجمعه يقف مع الولايات المتحدة، وأن التهديد الإيراني بالانسحاب من الاتفاق تارة أو بإغلاق مضيق هرمز تارة أخرى هي جلبة إيرانية بيتية لا يهتم لها العالم ولا يأخذها على محمل الجد.
تبدو رسالة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان واضحة. فحين يعلن أن رزمة الضمانات الأوروبية التي تطلبها طهران قد لا تصدر قبل تشرين الثاني (نوفمبر)، فذلك أن الموعد الفرنسي متّسق مع دفتر مواعيد أميركي يطلق رزمة عقوبات جديدة في آب (أغسطس) وأخرى ذات شأن أكثر قساوة، بالصدفة، في تشرين الثاني المتوافق مع مواعيد باريس ولودريان.
وفيما تمتثل طهران للمطالب الإسرائيلية بـ «الاختفاء» من جنوب سورية، على الأقل بالمستوى الرسمي العلني الذي كانت تفاخر به، وفيما تضغط الأدوات العسكرية متواكبة مع مزاج أممي جديد لنزع الورقة اليمنية نهائياً من الأيادي الإيرانية، وفيما يجهد قاسم سليماني وصحبة في لملمة نفوذ في العراق كان يفترض أنه نهائي متصاعد في العراق، يتقدم الشارع الإيراني المتكدّر بصفته واجهة الترهل الداخلي الذي سيعوّل عليه كثيراً لسوق الحاكم في طهران نحو طاولة مفاوضات بالتواطؤ الكامل مع دول مفترض أنها صديقة أو حليفة للجمهورية الإسلامية.
وما هو تحوّل يجري في خرائط العالم وآليات منظوماته يجري وفق أنساق بالإمكان مراقبتها وضبطها وملاحقة شططها. يبتعد العالم عن الصدام الكبير الذي تقدمت احتمالاته. تبدو أوكرانيا والقرم محاولة اغتيال سيرغي سكريبال في بريطانيا وراءنا. تعود روسيا-بوتين لتلعب دوراً تقريرياً في مستقبل هذا العالم ودوراً مشاركاً وراعياً للإنجاز الذي تحقق في سنغافورة لنزع فتيل الانفجار مع كوريا الشمالية. يبدو واضحاً أن واشنطن تقود هذا العالم نحو آفاق جديدة يجري ابتكارها. ويبدو أن بقية هذا العالم يسعى لتخفيف هذا «القدر» والتطوّع للعب داخله ومغادرة أي مساحات تدعي ممانعة حركة التاريخ التي تمثل هلسنكي بعد أيام واحدة من تجلياتها.