Site icon IMLebanon

العالم للبيع!

 

 

«أيها الشاعر قل لي

أية شجرة تظل تنعم بالحياة

إذا اقتلعوها من الجذور؟

أية سماء يمكن أن تنير

القبة الزرقاء إذا سرقوا شمسها؟»

(ماريا كونسيتا أريزي)

كتب آلان واتس يومًا: «ما لم يتمكن المرء من العيش بشكل كامل في الحاضر، فإنّ المستقبل سيكون مجرد خدعة. ليس هناك أي فائدة على الإطلاق في وضع خطط لمستقبل لن تتمكن أبدًا من الاستمتاع به». آلان واتس الذي عاش ومات في النصف الاول من القرن الماضي لم تمنحه الصدفة أن يولد ويعيش في عصرنا الحالي هذا… عصر السلع والتجارة بامتياز، حيث الناس المُثقلون بالمتاعب لا ينظرون إلى الوراء بعد الآن، إنهم يعرفون جيدًا أن سوء الحظ.. أو سوء الواقع في العصر «الحديث» يُطاردهم.. نعم، يطاردهم ويطردهم في عصر الذكاء الاصطناعي الذي أصبح فيه الانسان مجرد سلعة رخيصة.. سلعة رخيصة فاقدة الصلاحية!

 

نعم، العالم للبيع بين تداولات خطوط المال والسلطة والدم… العالم أصبح للبيع بين تجّار يقايضون موارد الأرض من الانسان إلى فرز النفايات… عالم ما يسمّى «ما بعد الحداثة»، والذي تحكمه وتتحكم به كل أنواع السلع والبضائع، من النفط الذي يغذّي حياتنا… إلى المعادن التي تشغّل هواتفنا الذكية… إلى قبورنا الإلكترونية الجماعية الذكية… هل تساءلنا يوماً من أين تأتي هذه المواد وألى اين تذهب؟ هل علينا البدء بالبحث عن أجوبة وجودية عن عالمنا ووجودنا وماذا ينتظرنا على حافة الكوكب البنفسجي الباهت؟… صدر قبل بضعة أعوام كتاب «العالم للبيع».. الكتاب الذي يكشف فيه صحافيان بارزان بين طيّات صفحاته إحدى أكثر المسائل الاقتصادية أهمية وأقلها تداولاً!

كتاب «العالم للبيع» لخافيير بلاس وجاك فارشي.. كتاب المال والسلطة وتجّار يقايضون من دون رادع أو من دون رحمة موارد الأرض والتحكم بكل أنواع السلع والبشر والمال والسلطة والكفن… الكتاب الذي يكشف أعمال التجار المليارديرات الذين يشترون موارد الأرض ويخزّنونها ويبيعونها متى وكيف وأين شاؤوا… إنها قصةُ حفنة من رجال الأعمال المتعجرفين الذين أصبحوا تروسًا لا غنى عنها في الأسواق العالمية، ما أتاح توسعاً هائلاً في التجارة الدولية، ورَبَطَ البلدان الغنية بالموارد، بغض النظر عن فسادها والحروب التي تمزّقها، بالمراكز المالية في العالم.

وهي أيضًا قصةُ اكتساب بعض التجار قوة سياسية لا توصف، على مرأى من المراقبين والسياسيين الغربيين والعالم، ما ساعد صدام حسين على بيع نفطه في أسواق ما تسمى سوداء، وتأجيج جيش الثوار الليبي خلال «الربيع» أو الخريف العربي، وسرقة لبنان وضرب اقتصاده وتمترس الطبقة السياسية الفاسدة خلف المليارات والودائع المنهوبة من دون حسيب او رقيب على سبيل المثال… وتحويل أموال إلى الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين رغم العقوبات الصارمة نتيجة غزو أوكرانيا من هنا ومن هناك. جولة مدهشة عبر أعنف حدود الاقتصاد السياسي العالمي، ودليل يعكس كيف تعمل الرأسمالية في السر… وكيف تعمل في العلن..!

في ديسمبر عام 1998 انتعشَ سعر النفط، ثم تضاعف في الأشهر الـ12 التالية، وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفاعًا كبيرًا في سعر النفط، حتى وصل سعر برميل النفط إلى 145 دولارًا في شهر يوليو 2008. يحكي فارشي وبلاس في كتاب «العالم للبيع» كيف ساعدت هذه الطفرة التاريخية في أسعار النفط، شركات مثل «كارجيل» و»فيتول» و»ترافيجورا» على تحقيق ثروات طائلة، وامتلاك سلطة سياسية هائلة.

كما يرى الصحفيان أن هناك عدة اتجاهات ساهمت في نمو شركات السلع الأساسية منذ السبعينات وحتى الآن، ويتضمن ذلك عمليات تأميم شركات النفط في الشرق الأوسط خلال السبعينات، وتفكك الإتحاد السوفياتي في التسعينات، وغير ذلك من عوامل ساهمت في تدمير سلاسل توريد متكاملة، كان يتم من خلالها نقل السلع في الأسواق الدولية، ونتيجة لذلك ظهرَ جيل جديد من الوسطاء، ليحلّ مكان سلاسل التوريد القديمة، ويسد الفراغ الذي حدث بين المُشترين وبائعي الموارد الطبيعية في العالم.

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حدث تغييران كبيران، هما النمو الهائل للصين، وزيادة تدفقات رأس المال العابر للحدود، وقد ساهمت هذه العوامل، بالإضافة إلى وجود طلب كبير على السلع، في زيادة أرباح شركات كما ذكرنا سابقًا، مثل «كارجيل» و»فيتول» و»جلينكور»، فقد حققت هذه الشركات الثلاث أرباحًا أكثر من 76 مليار دولار على مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى عام 2011، بما يمثّل عشرة أضعاف الأرباح التي حققتها نفس الشركات في التسعينات.

يذكر الصحفيان في كتابهما ايضاً «العالم للبيع» أن هذه الشركات وقعت في أخطاء في طريقها لتحقيق هذه الأرباح الفلكية، فعلى سبيل المثال تورطت شركة «ترافيجورا» في كارثة بيئية في ميناء أبيدجان في ساحل العاج عام 2006، كما اتُهمت شركة «جلينكور» عام 2016 بإغراق تشاد في أزمة ديون سيادية؛ بسبب قرض ضخم مقابل النفط الخام، والذي أصبح يمثّل عبئًا كبيرًا على الدولة بعد انهيار أسعار النفط.

«العالم للبيع» كتاب عن المافيات التي تحكم العالم.. مافيات تحكم الأرض وتنهب مواردها… خافيير بلاس وجاك فارشي من أشهر الصحافيين الذين يغطّون قضايا الطاقة والسلع والمؤسسات التجارية. يعملان مراسلَين في Bloomberg News. أجريا مقابلات تاريخية عديدة مع معظم الشخصيات الرئيسية في صناعة تجارة تداول السلع، ونشرا الحسابات المالية لعددٍ من هذه الشركات السرية للمرة الأولى. كما قدّما تقارير عن النفط والغذاء والحرب في مراحل عديدة متنوعة… من بلدان عديدة متنوّعة مثل كازاخستان وساحل العاج وليبيا وغيرها… هذا الكتاب هو كتابهما الأول وأتمنى أن لا يكون الأخير.

نحن في العصر السلعي هذا أصبحنا نعيش ونموت في عالم يأكل نفسه بسرعة «مطلقة» من دون توقف.. يلتهم نفسه من دون مراعاة العرض والطلب في حدوده القواعدية أو قواعده الابتدائية الأولى… ثم فجأة وذات يوم كما يقول صمويل بيكيت في «نهاية اللعبة» ينتهي الأمر، يتغير، ولا أفهم، تموت الاشياء أم أنا أموت، هذا لا أفهمه أيضاً، أُسائل الكلمات التي بقيت.. أُسائل النوم، المشي، الصباح، المسمار، فلا تقول شيئًا، أفتح باب الزنزانة وأمضي منحنياً فلا أرى سوى قدمي… فتحت عيني، ورأيت بين ساقي شيئاً من غبار أسود…. أقول لنفسي انطفأت الأرض… مع أنّي لم أرها أبداً مضيئة من قبل.

 

وصف جوزيه ساراماغو في كتابه (المفكرة)، العصر الحديث الذي نعيشه، قائلا: الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً… الجهل يتّسِع بطريقة مخيفة… نمر بأزمة حادة في توزيع الثروات… الشركات المتعددة الجنسية تسيطر على العالم. لا أعرف إذا ما كانت الظلال أم الخيالات تحجب الواقع عنا. ربما يمكننا مناقشة الموضوع إلى ما لا نهاية… ما هو واضح حتى الآن هو أننا فقدنا مقدرتنا النقدية على تحليل ما يحدث في هذا العالم. إذ نبدو محبوسين بداخل كهف أفلاطون. لقد تخلّينا عن مسؤوليتنا عن التفكير والفعل. فقد حوّلنا أنفسنا إلى كائنات خاملة غير قادرة على الإحساس بالغضب، وعلى رفض الانصياع، والقدرة على الاحتجاج… إننا نصل إلى نهاية حضارة ولا أرحّب بنفيرها الأخير. إن مجمع التسوّق (المول)… هو رمز عصرنا الاخير!