Site icon IMLebanon

عالم “قمّة هلسنكي” لا يستقرّ على مشهد معيّن سوى أيّام

 

العالم كما بدت “قيادته” في قمة هلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين لا هو عالم “الحرب الباردة” ولا هو عالم “ما بعد الحرب الباردة”. ليس عالم “التنافس بين الجبارين”، فروسيا الإتحادية حتى لو ضمّت شبه جزيرة القرم وتدخّلت في سوريا لن تستعيد الوزن الجيوسياسي للإتحاد السوفياتي ناهيك عن وزنه الرمزي – الأيديولوجي، أما الولايات المتحدة فمهما ابتعدت عن زمن الهيمنة شبه الأحادية في التسعينيات ومطلع الألفية، ومهما أصابها بعد التأرجح بين تجربتين “غير تقليديتين” على رأسها، باراك اوباما ودونالد ترامب، وخصوصاً مع استمرار الإستفهام حول أهلية الأخير، إن لم تكن سويّته، فلا تزال هي زعيمة العالم الغربي، ومن خلاله، كما من خلال قوتها الإقتصادية والمالية وخارطة قواعدها وأساطيلها عبر العالم، تبقى أعتى قوة على كوكب الأرض، وسيبقى هذا هو الحال لأمد غير منظور.

 

لكن هذا العالم الذي ما هو عالم الحرب الباردة ولا عالم ما بعدها، هو عالم النوبات. في لحظة، على “تويتر” غرّد ترامب قبل أشهر يكاد يعلن الحرب الكونية ويهدّد القوة الروسية بالصواريخ العابرة للقارات. في لحظة ثانية، وضع ترامب يده في يد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، وانقسم المراقبون بين من يراها لصالح الأميركيين، وبين من يراها لصالح الكوريين الشماليين، إنّما غلبت النظرة التي ترى في ترامب بعد قمة سنغافورة رجلاً يحسن اداء دور المجنون لتحصيل مكاسب في السياسة الدولية، ثم يعتصم بحبل العقل، بخلاف المشهدية الطافحة بالإبتذال حيناً وبالإستعراضية حيناً آخر. أما في قمة هلسنكي، فساد الإجماع الإعلامي والسياسي الأميركي على أن ترامب ظهر ضعيفاً، مهلهلاً أمام نظيره الروسي، وأنّه سلّف بوتين ما لم يكن ليحلم به الأخير، وتطوّع لإعفاء روسيا من الإتهامات المساقة ضدها بالتدخل الالكتروني في الانتخابات الأميركية، الأمر الذي أعاده البعض إلى “ممسك” للقيادة الروسية على ترامب، وأعاده البعض الآخر إلى رفض ترامب التشكيك باللحظة التي أتت به رئيساً للولايات المتحدة، في حين أعاده آخرون إلى أسباب تتعلّق بإنعدام أهلية ترامب بحدّ ذاتها، وبغياب سرعة بديهته أمام الأسئلة.

 

مع هذا، ورغم “الوهن” في الجانب الأميركي من صورة “قمة هلسنكي”، فإنّ المبالغة حول قفز روسيا إلى صدارة العالم ليست أبداً بمدخل معقول لوزن الأمور. كانت غاية موسكو من القمة العمل على تحسين صورتها، لكن الفشل الذريع في الصورة الأميركية أضرّ بغايتها هي أيضاً. كل ما تفعله روسيا منذ أربع سنوات هو لإيصال الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، للإعتراف بالأمر الواقع المتمثل بضم شبه جزيرة القرم، والإقرار بالنفوذ الروسي في أوكرانيا. شيئاً من هذا لم يتبدّل بعد قمة هلسنكي. ليس في مقدور دونالد ترامب التأثير على هذا المسار: بالنسبة إلى روسيا ضم القرم هو أمر ما عاد يناقش في ذاته، وبالنسبة إلى الغربيين يسود موقف متمسك بابقاء الخلاف محورياً حول هذه النقطة. وهذا يعني أيضاً المقاربات للعلاقات بين موسكو وواشنطن في بلداننا العربية. فحتى لو كانت هذه المقاربات تتمحور حول الدور الروسي في سوريا، والعلاقة بين الروس وكل من الايرانيين والاسرائيليين، فإن مركز التوتر العالمي بين موسكو والغرب ليس سوريا ولا ايران، بل اوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وسياسة التمدّد الأطلسي في اتجاه الجمهوريات السوفياتية السابقة هو الأساس الموضوعي لكل توتر، ولكل جموح روسي مضاد. لا يلغي هذا، أن الهزال الأميركي في قمة هلسنكي هو أمر ينظر له الجانب الإسرائيلي تحديداً بالشكل الذي عكسه السفير الأميركي السابق لدى اسرائيل دانييل شابيرو في مقالته بصحيفة “هآرتس” حين ذهب الى انه بعد قمة هلسنكي، صار يلزم أكثر لاسرائيل التركيز على العلاقة مع روسيا حول الوضع في سوريا وحول الايرانيين، وتراجع الاعتماد على الدور الأميركي في المنطقة.

 

يبقى أنّ قمة هلسنكي بالضعف الذي أظهرته على الصورة الأميركية ربما كانت تستدعي ردّات فعل عكسية، أميركية وغربياً في الفترة المقبلة. فهذا العالم الذي ليس هو عالم الحرب الباردة ولا عالم ما بعدها هو عالم لا يمكن أن يستقر على مشهد معيّن لأكثر من بضعة أيام.