أوّل تصدّع بارز للوكالة الصهيونية العالمية
لا تزال الحرب الروسية – الأوكرانية تستقطب اهتمام العالم سياسياً وعسكرياً واعلامياً. وكنا قد عرضنا مؤخراً، وفي “نداء الوطن” (3/3/2022) للحلّ الوحيد المناسب لهذا النزاع وهو حلّ “التحييد” لأوكرانيا على الطريقة النمسويّة. إذ في مثل هذا الحلّ يمكن إبعاد أوكرانيا عن أن تكون بؤرة تفجير للنظام العالمي بين الغرب والشرق. وهو اعلان لوضع قانوني دولي جديد للجمهوريّة الأوكرانيّة تضمنه الدوَّل ذات العضويّة الدائمة في مجلس الأمن.
في هذه العجالة نعرض لطبيعة هذه الحرب وللقوى المتواجهة فيها، في خلفياتها الايديولوجيّة، وتحديداً بين القوى ذات الصلة بالإنتماء الى الديانة اليهوديّة وبالتالي ذات التأثّر والتأثير في الوكالة الصهيونيّة العالميّة. الأمر الذي يخلق ارباكاً على جانبيّ جبهة الصراع ويضع اسرائيل، والمسؤولين الاسرائيليين في موقف محرج.
أولاً: اليهود السوفيات بالأرقام
1 – يشكّل اليهود السوفيات نقطة مركزيّة في العلاقات الروسيّة – الاسرائيليّة. وبحسب موسوعة اونيفرساليس للعام 1988 فإنّ عدد سكّان الاتحاد السوفياتي هو 282.8 مليون نسمة يشكّل اليهود نسبة 1.1% جزء منهم اي 3.1 ملايين يهودي أعلى ثاني نسبة يهوديّة في دول العالم بعد الولايات المتحدة. لقد قام اليهود بدور بارز في الثورة البولشفيّة وكانوا إحدى الجماعات الأكثر نشاطاً آنذاك. كان يوجد 77 ألف عالم يهودي. وهم يشكّلون 14.7% من مجموع الأطباء و14% من الكتّاب و23% من الملحّنين والمؤلفين و13% من الفنّانين و10.4% من المحامين كما هناك أعداد مهمّة في المراكز الحكوميّة. هذه الأرقام تؤكّد أن الأقليّة اليهوديّة في روسيا كانت ولا تزال نخبة ذات دور بارز وتأثير في المجتمع الروسي وبشكل خاص في اختيار رجال السلطة!
2 – لقد أوردنا هذه الأرقام قصداً لكي ندعّم الرأي القائل بأن الرئيس فلاديمير بوتين هو في نسبة مهمة، احد تجليات المؤسسة الصهونيّة في الرئاسة الروسيّة. هذه المؤسسة التي صوّتت عام 1947 على تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة إذ أن القوى القوميّة اليهوديّة في الاتحاد السوفياتي كانت في أساس فكرة انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي تقدير موسكو، وستالين تحديداً، أن اسرائيل ستكون الجسر “التقدّمي” لدخول السوفيات الى الشرق الأوسط حيث تهيمن “الرجعيّة”!
3 – في مراجعة لأعداد اليهود الذين هاجروا من روسيا الى فلسطين، ومن الاتحاد السوفياتي الى اسرائيل بين العامين 1922و1987 وخاصة في زمن وجود كيسنجر في السلطة في الولايات المتحدة، يصل هذا العدد الى 2.226 (مليونين ومئتين وستة وعشرين الفاً)، وبذا تكون روسيا الدولة الأولى في العالم التي ضخّت القدرة الديموغرافية في كيان دولة اسرائيل.
4 – ان العلاقات الخاصّة بين السلطات الاسرائيليّة ونظام الرئيس بوتين تتبدّى من خلال مواقف واضحة:
اجتماع بوتين برئيس الوزراء الاسرائيلي في اسرائيل لمدة خمس ساعات.
ثم اجتماعهما في موسكو لمدة ثلاث ساعات.
ثم الحريّة المعطاة للطيران الاسرائيلي، دون غيره، للعمل بحرية في الأجواء السوريّة حيث الهيمنة الروسيّة.
ثم قيام الرئيس الاسرائيلي بينيت بوساطة في الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة.
5 – بالنسبة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فهو ليس بحاجة الى اجتهادات: إنّه يهوديّ معروف. ولعلّ صفته تلك هي التي جعلته، بدعم من الوكالة الصهيونيّة العالميّة، رئيساً لجمهوريّة أوكرانيا. وهكذا أصبحنا أمام قيادتين متواجهتين: روسيا وعلى رأسها زعامة ترعى المصالح اليهودية في روسيا في الشرق الأوسط وفي العالم ممثلّة بالرئيس بوتين. وأوكرانيا وعلى رأسها زعامة يهوديّة تسعى وتعمل لحرية وسيادة واستقلال اوكرانيا في مواجهة الهيمنة الروسيّة وهي ممثلة بالرئيس زيلينسكي.
ثانياً: حدود التصدّع داخل الوكالة الصهيونيّة العالميّة
1 – من المرّات النادرة حدوث مثل هذا التصدّع داخل المؤسسة اليهودية الأكبر والأفعل: الوكالة الصهيونيّة العالميّة: إنّها المؤسسة التي ترعى مصالح اسرائيل والشعب اليهودي في جميع انحاء العالم. إنّها بالنسبة للأزمة الأوكرانيّة واقعة بين خيارين احلاهما مرّ:
– هل تقف الى جانب بوتين الحريص على مصالح دولة اسرائيل؟
– أم تقف الى جانب زيلينسكي الحريص على مصالح شعب أوكرانيا؟ وهل يمكن التوفيق بين الأمرين؟ وكيف؟
2 – يقوم رئيس حكومة اسرائيل نفتالي بينيت، دون سواه، من المسؤولين العالميين، بمفاوضات مع الرئيسين الروسي والأوكراني في محاولة لايجاد تسوية بين الجانبين. حتى وإن لم تصل هذه المبادرة الى نتائج ملموسة. فإنّها بالمقابل تعطي انطباعاً عن العلاقة الخاصّة بين المسؤول الاسرائيلي والرئيسين الروسي والأوكراني.
3 – ان المواجهة بين روسيا وأوكرانيا تخلق شرخاً داخل المؤسسات اليهوديّة على مستوى الدولة العبرية، كما على مستوى الوكالة الصهيونية العالميّة وهي حالة نادرة الوقوع في تاريخ الجماعة اليهوديّة. وفيها احراج مثلث الجوانب: لاسرائيل وللرئيسين الروسي والأوكراني ولبلدانهم الثلاثة. والخطير في هذه الاشكاليّة أنها تتصل بأمور مصيرية وليس بمجرّد أمور سياسيّة عاديّة. وبالتالي يصبح التراجع فيها صعباً، والوصول الى حلّ بشأنها اكثر صعوبة.
فالى أي مدى ستبلغ حدود التصدّع؟
وهل من ذهن استراتيجي قادر على ايجاد مخرج لهذا التصدّع؟
في الخلاصة: ان هذا التصدّع يمنع بالفعل ذاته الرئيس بوتين من الذهاب أبعد مما ذهب في التصعيد العسكري- السياسي.
إنّه محكوم باحترام والتزام الحدود المرسومة له “يهودياً” في استخدام الرجال والسلاح في المعركة.
ولعل الرجل القادر على إفادة الجانبين بمشروع حلّ للاشكاليّة اليهوديّة هو اليهودي التاريخي: هنري كيسنجر! فقد يعودان اليه ليقدّم لهما “الفتوى” التي تعالج هذا التصدّع!
وستكون بالفعل فتوى لا تقبل المراجعة من مرجعيّة استراتيجيّة كونيّة!