أطماعُ تركيا في سوريا قديمةٌ وتُشبه أطماعَ سوريا في لبنان. لم تَهضُم أنقره تقسيماتِ «سايكس/ بيكو» (1916) ولا معاهدةَ «سيڤر» (1920) ولا حتّى معاهدةَ «لوزان» (1923) التي أَنهَت السلطنةَ العثمانيّةَ وحَجّمَت الدولةَ التركية. منذُ مئةِ سنةٍ وتركيا تَدْأبُ على إلغاءِ مفعولِ معاهداتِ ما بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى.
وإذا كان مصطفى أتاتورك استعادَ، بدعمٍ بريطانيٍّ، في معاهدةِ «لوزان» ثلاثَ عشرةَ محافظةً على الحدودِ السوريّةِ / العراقيّة (كيليكيا، أضنه، مرسين، طرسوس، ديار بكر، إلخ…)، وسَلخَ، بدعمٍ فرنسيٍّ، لواءَ اسكندرون من الساحلِ العلويِّ / السوريّ سنةَ 1938، وبُولِنت أجاويد احتلَّ شمالَ قبرص سنةَ 1974، فإنَّ أردوغان اليومَ، بتواطؤٍ أميركيّ / روسيٍّ، يُقلِّدُ السلطانَ العثمانيَّ سليم الأول الذي دَخل المشرِقَ بعد معركةِ «مرج دابق» سنةَ 1516. وتَشاءُ الحتميّةُ الجيو ـــ تاريخيّةُ أن تدورَ العمليّةُ العسكريّةُ التركيّة، «نَبعُ السلام»، في مِنطقةِ «مرج دابق» بالذات.
العمليّةُ التركيّةُ اليومَ منتَظرَةٌ منذ بَدءِ الحربِ في سوريا سنةَ 2011، بل منذ سنةِ 1998 حين هَدّدت تركيا الرئيسَ الراحلَ حافظ الأسد بالتدخُّلِ عسكريًّا إذا لم يُوقِف دعمَه الأكرادَ ويَطرد الزعيمَ الكرديَّ عبدالله أوجلان، ففَعل. واقتطاعُ تركيا، الآن، بالقوّة، نحو ثلثِ مساحةِ سوريا الشرقيّةِ الشماليّة، تطورٌ متوقَّعٌ أيضًا في منطقِ مشروعِ اقتسامِ سوريا.
لقد مَرّت سوريا في السنواتِ الأخيرةِ في ثلاثِ مراحل: حربُ النظامِ على شعبِه، وحربُ الشعبِ على نظامِه، وحربُ الدولِ على سوريا شعبًا وأرضًا ونظامًا.
فسوريا اليوم أمّةٌ فسيفسائيّةٌ تَحتلّها أربعُ دولٍ، ويَنتشرُ على أراضيها نحو عشرينَ تنظيمًا مسلَّحًا، وتَنتهِكُ سيادتَها الجويّةَ نحو ستٍ وسبعينَ دولةً متحالِفةً تحت عنوانِ محاربةِ الإرهاب. بات النظامُ تفصيلًا في المعادلة، وضائعًا لا يَعرِفُ مَن هو حليفُه الحقيقيّ ومن هو عدوُّه الـمُضمَر، ومن ساعدَه ليَبقى ومَن أبقاه ليَبقى هو.
إذا كانت تركيا تُسوِّق أنَّ عمليّتَها العسكريّةَ تُنقذُ سوريا من الحكمِ الذاتيِّ الكُرديّ، فإنّها، بالمقابِل، تَنتزعُ منها ثلثَ أراضيها. وأصلًا، إنَّ الحربَ في سوريا تَتْبعُ إحداثيّاتِ الفرزِ المذهبيِّ، فبرَزت مناطقُ منفصِلةٌ عن الدولةِ المركزيّةِ تَنتظِرُ الانتقالَ من حالةِ الأمرِ الواقع ِإلى الواقعِ الشرعيّ.
والعمليّةُ التركيّةُ الجاريةُ تُكْمِلُ نهجَ الفرزِ المذهبيِّ بإبعادِ الأكرادِ وسائرِ الأقليّات عن حدودِ تركيا الجنوبيّةِ الشرقيّةِ وتوطينِ النازحين السوريّين السُنّة مكانَهم. كذا تُحوِّلُ تركيا النازحين السنّةَ «شعبًا فاصلًا» بينَها وبين الأكراد. ولا يُستبعَد في هذا السياقِ أن تحاولَ تركيا إنشاءَ كيانٍ مميَّز لــ«الإخوانِ المسلمين» في مواجهةِ الحالةِ العلويّةِ الحاكمةِ والمدِّ الشيعيِّ الإيرانيّ في «سوريا الأخرى» ما يُنذر ببعثِ الاقتتال.
يَلتقي تَدخّلُ تركيا اليومَ وإيران أمسِ في سوريا بكونِ الدولتين تَسعيان إلى الهيمنةِ على مِنطقةِ الشرقِ الأوسطِ والبحرِ المتوسط، فتُحْيي تركيا الإمبراطوريّةَ العُثمانيّةَ، وإيران الإمبراطوريّةَ الفارسية (لا رسومَ على الأحلام). ولكنهما تَفترقان بِكَون التدخلِ الإيرانـيِّ الشيعيِّ جاءَ لمصلحةِ النظامِ السوري وضِدَّ المعارضة، بينما أتى التدخّلُ التركيُّ الإسلاميُّ ضِدَّ النظامِ والمعارضةِ الباقيةِ معًا. وتَتمايزان بِكَوْنِ إيران تُريد بلوغَ البحرِ الأبيضِ المتوسِّط (الساحلين السوريِّ واللبنانيّ)، في حين ترُكّز تركيا على الداخلِ المشرقيِّ أكثرَ من البحرِ الذي تُشرف عليه أساسًا.
ولكي تُحَقِّقَ تركيا عمليّتَها، انتَظرت: القضاءَ على داعش، انهماكَ إيران بمَلفِّها النوويّ، ضمَّ إسرائيل الجولان، حِرْصَ روسيا على مؤتمرِ أَسِتانَة، توسيعَ الأكرادِ منطقةَ إدارتِهم الذاتيّة، تخوّفَ دولِ أوروبا من تَدفّقِ نازحينَ جددٍ إليها، وانسحابَ القوّات الأميركيّة قبلَ الانتخاباتِ الرئاسيّة. اعتبرَت تركيا أنَّ مجاورَتهَا سوريا تُعطيها «حقَّ الشُفْعةِ» للدخولِ إلى سوريا، كأنَّ الدولَ المجاوِرةَ معفاةٌ من واجبِ احترام ِسيادةِ الدولِ القريبةِ منها.
رغمَ الموقفِ الدوليِّ اللاأَخلاقيِّ، أثار دخولُ تركيّا شمالَ سوريا قلقَ العالمِ وخَشيتَه. الخَشيةُ من الاجتياحِ التركي تَختلف من طرفٍ إلى آخَر: النظامُ السوريُّ يَخشى احتلالًا تركيًّا دائمًا لنحوَ ثُلثِ أراضي البلاد؛ فلم يَسبِق أَن احتلَّت تركيا أرضًا وانْسحبَت منها.
الأكرادُ يَخشَوْن القضاءَ عليهم جسديًّا وسقوطَ مشروعِ إنشاءِ مِنطقةِ حكمٍ ذاتّي. الدولُ العربيّةُ عمومًا تَخشى تمركزَ دولةٍ إسلاميّةٍ غيرِ عربيّةٍ أُخرى في قلبِ العالمِ العربيّ بعد التمدّدِ الإيراني. العراقُ يَخشى لجوءَ الأكرادِ إلى كُردستان ما يُسبِّبُ إشكالاتٍ دستوريّةً وأمنيّةً جديدة. مِصرُ ودولُ الخليج ـــ باستثناءِ قطر ـــ تَخشى عودةَ الإخوانِ المسلمين إلى المعادلةِ السوريّةِ/العربيّة.
إيران تَخشى أن يَحِدَّ الاحتلالُ التركيُّ من تمدُّدِها في سوريا ودولِ المشرِق فيَحصُلَ ربطٌ بين انسحابِهما. روسيا تَخشى أن تُحاولَ تركيا ابتزازَها بالتكفيريّين ذوي الارتباطِ بجماعاتٍ في روسيا والقوقاز وأنْ تُوسّعَ مداها الجغرافيَّ فتُعيقَ السيطرةَ الروسيّةَ العسكريّة. أوروبا تَخشى أنْ تؤدّيَ العمليّةُ التركيّةُ إلى تدفّقِ نازحين سوريّين وأكرادٍ إلى دولِـها وفِرارِ العناصرِ الداعشيّةِ.
إسرائيل تَخشى أنْ تَستغلَّ تركيا تَمركزَها في سوريا للمزايدةِ على العربِ في موضوعِ القضيّةِ الفِلسطينيّة والقدس. حلفُ شمالِ الأطلسيّ، الذي كان يقومُ بعمليّاتٍ جويّةٍ فقط ضِدَّ الإرهابِ في سوريا، يَخشى أنْ يَفقِدَ نهائيًّا قوّاتِه البريّةَ التي كانت تَتشكّلُ من الأكرادِ و«قسد». أما ترامب، فلا يَخشى شيئًا لأنّه لا يُبالي بشيءٍ، ولا يحترمُ التزاماتِه، ولا يَهُمُّه سوى إعادةِ انتخابِه.
لكنَّ جُبنَ العالِم أكبرُ من قلقِه. إنَّ ثمنَ منعِ تركيا من اجتياحِ سوريا أقلُ كِلفةً من القَبولِ به. ويُخطئ العالمُ إذا ظنَّ أنَّ تركيا دَخلت الأراضي السوريّةَ لتأديبِ نظامِها المعزولِ دوليًّا أو لمنعِ الأكرادِ من إقامةِ دولتِهم فقط؛ فأطماعُ تركيا في شمالِ سوريا وشرقِها دائمةٌ مهما كان لونُ النظامِ السوريِّ ونوعُه. والوضعُ الكُرديُّ ذريعةٌ لا حُجّة.
إذا كانت أميركا لامباليةً، فماذا يَمنعُ الدولَ القادرةَ والأممَ المتّحدةَ من الوقوفِ في وجهِ تركيا؟ وإذا كان اجتياحُ حدودِ دولةٍ أخرى والبقاءُ فيها والقضاءُ على حقوقِ الأقليّات لا يَستحقُّ التحرّكَ، فأيُّ قيمةٍ إذًا للقانونِ الدوليِّ؟ وما نفعُ الديمقراطيّاتِ إذا ضَمَنت حقوقَ الفردِ وأَهْرقَت حقوقَ الشعوب؟