هل هناك شيء إسمه استراتيجية أسوأ الحلول، وهل يمكن لطرف معيّن ان يصمّم أوضاعاً، عسكرية وسياسية، تؤدي إلى تطبيق هذه الإستراتيجية، ولعل الأهم من كل ذلك ما إذا كانت هناك أطراف قد تقبل بالإنخراط بهذه الوضعية والقبول تالياً بإشتراطاتها ومخرجاتها؟
ليس ما سبق أسئلة عصف فكري بل هي مقاربة للإسلوب الذي تستخدمه روسيا في إدارة الصراع السوري ومساوماته وشروط اللعبة فيه، وهي، حتى اللحظة، تفرض هذا الإيقاع بمهارة عبر صناعة سياقاته وتصميم الظروف المناسبة لموضعته كخيار وحيد، وما على الاطراف الأخرى سوى التكيف معه أو إختيار بدائل من الهامش الذي يتيحه هذا الخيار.
تقوم هذه الإستراتيجية على قراءة الوضع وبخاصة من نقاط ضعفه والتركيز على الإشكاليات ومواضع اللبس فيه، وتعيين الخواصر الرخوة التي سيجري الدخول منها إلى قلب الحدث، وصناعة السردية المناسبة لمواكبة الإنخراط وترويجها إعلاميا باعتبارها الصورة الحقيقية للحدث وما يجري هو العلاج الذي تأخر وصار لازماً إستعماله.
وهكذا، فإن بقاء نظام بشار الأسد وإعتراف العالم بالهيمنة الروسية على سورية ومراعاة مصالح إيران ونفوذها، هي أسوأ الحلول، حتى روسيا نفسها لا تطرحها بأكثر من هذه الصفة، لكنها رغم ذلك تروّج لها على أنها الحلول الوحيدة الممكنة للمحافظة على مؤسسات الدولة السورية وبقاء سورية كياناً موحداً، إضافة إلى المحافظة على التوازنات الإقليمية، وضمان إستمرار إشتغال النظام الدولي بآلياته التقليدية.
وبنطوي هذا الحل على بدائل أخرى، بعضها مضمر وأغلبها معلن، تطرحها روسيا، وتتشكّل من إستمرار الفوضى الإقليمية واحتمالات إنتقالها إلى كامل الإقليم بما يعنيه من إعادة صوغ النظام الإقليمي على المستويين الجغرافي والديمغرافي، وتقسيم سورية بشكل نهائي بذريعة حماية مكونات معينة من خطر الإبادة طالما أن الأطراف الأخرى لا تستجيب للشروط الروسية، وكذلك إضطراب النظام الدولي غير المستقر أصلاً، إضافة إلى دعم الهيمنة والنفوذ الإيراني في المنطقة، أو على الأقل عدم التدخل لضبطه.
أما التطبيقات العملية لهذه الإستراتيجية فتتمثل في تدمير جميع البدائل المحتملة للأسد وفرضه كخيار وحيد قابل للدعم في سورية، وتقليص خيارات الدول الداعمة للثوار ودفعها لقبول الحل الذي تفرضه روسيا، والذهاب في هذا المنحى إلى ما هو أبعد من ذلك، عبر إستقطاب الأطراف الإقليمية والدولية للحل الروسي تحت عناوين عديدة مثل التنسيق والحياد والدعم، بحيث تتحول الأطراف الرافضة إلى أقلية معزولة وغير مؤثرة.
وتعمل روسيا على تقنين رؤيتها عبر تسوية سياسية ليصار إلى تثبيت مكاسبها، وتعتقد دوائر صنع القرار الروسي أنها قاب قوسين من فرض خياراتها بعد أن ضمنت موافقة جزء وازن من التكتل الاوروبي وتحييد الإطار الإقليمي بعد إخراج مصر والأردن منه وإرباك تركيا، وبالتالي فإن أسوأ الحلول صار حلاً مقبولاً طالما أن هناك تكتلاً إقليمياً ودولياً يدعمه.
وتبدو أميركا، وهي الطرف الأكثر ثقلاً في هذه اللعبة، خارج الحساب الروسي، طالما أن واشنطن تنهل إستراتيجيتها من صندوف أدوات اوباما المليء بالحذر والتردد، لذا فإنها لا تلمح في تقديراتها غير الخيارات السيئة والمرعبة لها، من نوع خوفها من الغرق في المستنقع السوري واحتمال زيادة الإلتزام المفتوح تجاه أزمة معقدة، فيما تغيب كل الإحتمالات الأخرى المتفائلة بشرق أوسط جديد أو إزدهار قيم الديموقراطية، إذ لم تعد هذه الخيارات في عهد إدارة اوباما عناصر تستحق العمل عليها، بل ثمة قناعة روّجتها إدارة اوباما لتقنع الدوائر السياسية الأميركية بعدم جدوى التدخل في سورية على اعتبار أن استخدام كل القوة العسكرية الممكنة في الشرق الأوسط يترجم غالباً إلى نتائج فقيرة في ما يتعلق بالمخرجات السياسية، وبالتالي فإن من الأفضل الجلوس وإنتظار فشل روسيا الحتمي.
لكن رغم كل ذلك، لا يبدو أن الخطة الروسية تسير صوب إنتاج وضعية مستقرة تتفق مع تخطيطها الإستراتيجي، بل على العكس هناك مؤشرات بدأت تتنامى عن أن تطرف روسيا في خياراتها يدفع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية إلى البحث عن خيارات بديلة لمواجهتها ودفعها إلى عقلنة سياساتها في سورية، والمفارقة أن سبب تأخير ظهور إستراتيجية مواجهة للتدخل الروسي حتى اللحظة يتعلق برهانات اكثر الأطراف على ضعف ومحدودية القدرة الروسية من جهة أو رغبة بعض الأطراف في رؤية موسكو غارقة في المستنقع السوري. بإستثناء ذلك فان أغلب الفاعلين غير مستعدين لقبول التغيرات التي ترغب موسكو في إحداثها إن على مستوى إعادة صوغ النظام الإقليمي أو إعادة توصيف تراتبية القوة في النظام الدولي، وتملك الأطراف المواجهة القدرة والإمكانات ليس فقط لإفشال الخطة الروسية بل وعكسها على روسيا نفسها ووضعها أمام أسوأ الخيارات والحلول.