o
بدأت في العراق ولن تنتهي في العراق. لاتزال ارتجاجات الزلزال العراقي الذي وقع في العام 2003 تتردّد الى اليوم في ارجاء المنطقة كلّها في ضوء الخلل في التوازن الإقليمي الذي تسبّبت به إدارة جورج بوش الابن. ما حصل في العام 2003، بعد دخول الاميركيين الى بغداد، لم يكن مجرّد اسقاط للنظام القائم، الذي كان في حاجة الى من يسقطه في ضوء كلّ الأخطاء التي ارتكبها…
ما حصل، على الصعيد العملي، كان اهمّ من ذلك بكثير. في 2003، انهار النظام الإقليمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية في عشرينات القرن الماضي.
كان العراق احد الاعمدة التي قام عليها هذا النظام الإقليمي، كما كانت حدوده مع ايران تفصل «بين حضارتين كبيرتين في المنطقة»، على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. بكلام آخر، ان الشرق الاوسط والخليج ما زالا يعانيان الى اليوم من هذا الخلل الاستراتيجي الناجم عن سقوط العراق وزوال حدوده مع ايران وتقديمه على صحن من فضّة اليها.
كلّ ما يمكن قوله في هذه الايّام ان النظام الذي تأسس في العام 2003، مباشرة بعد الاجتياح الاميركي للعراق، انتهى في العام 2019. ما الذي ينتظر العراق والمنطقة كلّها، بما في ذلك ايران في السنة 2020؟
ليس مبالغة توقع ان تكون 2020 سنة ايران أيضا. مستقبل النظام الايراني يتقرّر في العراق، كذلك مستقبل المنطقة كلّها بما في ذلك سوريا ولبنان، في حين تبدو قضيّة فلسطين في ثلاجة الى اشعار آخر بعدما طغى الحدث العراقي وما تلاه على كلّ ما عداه من احداث.
من الواضح، في ظلّ المعطيات الإقليمية، انّ ثمة حاجة الى إعادة تركيب المنطقة بعدما استطاعت ايران تفتيت دول عدّة من بينها العراق وسوريا ولبنان الذي اصبح على شفا انهيار اقتصادي يهدّد تركيبته الاجتماعية والسلام الأهلي فيه ومستقبل كلّ مواطن.
كان العراق في أساس الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني الذي تسعى إدارة دونالد ترامب الى وضع حدّ له منذ سنوات عدّة وصولا الى فرض مزيد من العقوبات على «الجمهورية الاسلامية» التي اسّسها آية الله الخميني في العام 1979. قام وقتذاك نظام استطاع تغيير الشرق الاوسط بعدما استثمر الى حدّ كبير في الميليشيات المذهبية التي سيطرت على لبنان وجزء من اليمن واستطاعت إبقاء بشار الأسد في دمشق، كما ضمّت العراق الذي صار مع الوقت في أساس تراجع المشروع الايراني وافلاسه.
كان الفشل في العراق في البداية اميركيا. صار مع مرور الوقت إيرانيا. ما تبيّن في نهاية المطاف انّ ايران تستطيع ان تدمّر، لكنّها لا تستطيع ان تبني وان مشروعها قائم على الهدم نظرا الى ان في أساس هذا المشروع الاستثمار في الغرائز المذهبية وتأجيجها بغية تبرير دور الميليشيات المذهبية في السيطرة على مرافق الدولة. يظل ما حلّ بلبنان المثل الحيّ الأفضل على ذلك. لعبت الادارات الاميركية المتلاحقة منذ العام 2003 كلّ الأدوار المطلوبة منها لتسهيل مهمّة ايران في العراق. دخل قادة الميليشيات المذهبية بغداد، وهي ميليشيات تابعة لاحزاب عراقية تابعة بدورها لإيران، على الدبابة الاميركية في اللحظة التي سقط فيها تمثال صدّام حسين في العاصمة العراقية. كان ذلك في التاسع من نيسان – ابريل 2003. منذ ذلك اليوم، لم يتوقّف التمدّد الايراني في العراق، خصوصا بعد القرار الاميركي بتهميش السنّة العرب وحل الجيش العراقي ثمّ تشكيل المجلس الانتقالي. لم يحدث شيء بالصدفة في العراق، بما في ذلك الانسحاب الاميركي في السنة 2011 في عهد باراك أوباما. جاء ظهور «داعش» بعد ذلك، وهو ظهور لم تكن ايران بعيدة عنه، لتبرير قيام «الحشد الشعبي» وتوفير شرعية له. كان مطلوبا في كلّ وقت حلول «الحشد» الشعبي، الذي ليس سوى مجموعة ميليشيات مذهبية مكان الجيش العراقي، وذلك كي يلعب «الحشد» الدور الذي يلعبه «الحرس الثوري» في ايران.
هناك امران تجاهلتهما ايران في سياق سعيها الى السيطرة على العراق. كان الامر الاوّل ان شيعة العراق ما زالوا يؤمنون بالعراق وان الروح الوطنية العراقية، التي برزت في حرب 1980 – 1988 ما زالت حيّة. هذه الروح الوطنية شكّلت حاجزا وقف دون تقدّم ايران في جنوب العراق عندما اختل التوازن العسكري لمصلحتها في اثناء تلك الحرب. هذه الروح الوطنية تتجاهلها ايران في كلّ مكان تعمل فيه على فرض سيطرتها، بما في ذلك لبنان. من بين اهمّ ما كشفته الثورة الشعبية في لبنان، وهي ثورة مستمرّة منذ السابع عشر من تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي، ان لا فارق بين شيعي وسنّي ومسيحي ودرزي في لبنان. يريد الجميع العيش في وطن يتساوى فيه كلّ مواطنيه ولا تحكمه ميليشيا تابعة لـ»حزب الله» او أدوات مسيحية تابعة لهذه الميليشيا.
امّا الامر الثاني الذي غاب عن بال النظام الايراني فهو انّ ليس في الإمكان ممارسة الهيمنة خارج حدود ايران من دون اقتصاد قويّ. فوق ذلك كلّه، ليس لدى ايران نموذج ناجح تقدّمه في أي مجال من المجالات. ان الفشل الاقتصادي الايراني جعل «الجمهورية الإسلامية» عاجزة عن مواجهة العقوبات الاميركية التي ستزداد في السنة 2020.
ما الذي ستفعله ايران امام فشلها في العراق، وهو فشل بلغ ذروته بوضع رئيس الجمهورية برهم صالح استقالته في تصرّف مجلس النواب ردّا على سعي طهران الى فرض ميليشيوي رئيسا للوزراء. ما تؤكده ردود فعل رجل عاقل مثل برهم صالح، غير معاد لإيران، انّ شيئا ما تغيّر في العمق في العراق. معنى ذلك انّ لا مستقبل لـ»الجمهورية الإسلامية» في العراق وان الثورة الشعبية التي يشهدها البلد، انّما هي ثورة على ايران قبل ايّ شيء آخر.
ستكون السنة 2020 سنة التحولات الكبيرة في العراق، وهي تحولات لا بدّ ان ترتدّ على ايران نفسها. لكن السؤال الذي سيطرح نفسه اكثر فاكثر هو هل يمكن إعادة تركيب العراق وما طبيعة النظام الذي سيخلف النظام الذي اثبت فشله الذريع منذ 2003، وهو نظام اسّس له الاحتلال الاميركي وكانت ايران المستفيد الاوّل منه…
هناك أسئلة عراقية من دون أجوبة. الثابت الوحيد ان الخلل الذي خلّفه سقوط العراق مستمرّ ومعه تستمرّ الانعكاسات على المنطقة كلّها. استغلت ايران طويلا هذا الخلل، لكن الوقت حان كي تعاني هي الأخرى منه. وهذا ما سيظهر بوضوح ليس بعده وضوح في السنة الجديدة التي ستكون سنة العراق وايران في الوقت ذاته.