ظلّ المفكرون الاستراتيجيون الغربيون يحذرون زمنا طويلا من ايقاظ التنين الأصفر النائم. وكانوا يقصدون بذلك القارة الصينية بمساحاتها الأرضية الشاسعة وبهذا العدد الهائل من البشر الذين يعيشون على أرضها ويحملون هويتها! ويحار المرء في تفسير وفهم امكانات هذا العقل الانساني للقيادة الصينية على ادارة شؤون دولة يبلغ عدد سكانها نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة. وعلى الرغم من تحديد النسل، فقد يزيد عدد سكان الصين من المواليد الجدد مليون نسمة قبل الانتهاء من كتابة هذه الجملة! وهذا الكمّ الهائل من البشر يشكّل عبئا غير محدّد الثقل على أية قيادة لأية دولة في العالم. غير أن العقل الجبار والخلاّق للقيادة الصينية نجح في صنع المعجزة. والمفارقة صارخة عند المقارنة… فدولة صغيرة مثل لبنان لا تزال عاجزة عن تأمين مستوى من العيش الكريم لمواطنيها البالغ عددهم نحو أربعة ملايين نسمة، وتعاني من نقص فادح في مختلف مجالات الحياة مثل الكهرباء والماء والتعليم والصحة، مع أحمال قاصمة للظهر من التلوث والبطالة والقمامة وسوء الادارة، في حين ان دولة عظمى مثل الصين لم تضمن العيش الكريم لأبنائها وحسب، وانما أيضا حوّلت هذا العديد الضخم من السكان من عبء الى طاقات غزت العالم بصناعاتها وخبرائها!
استيقظ التنين الأصفر الصيني من زمان، ولكن بهدوء وتؤدة، وبقيادة تؤثر العمل بصمت، وتركت لغيرها من بعض قادة الدول العظمى والأعظم، مجال الثرثرة والتغريد على تويتر! ومع ذلك لم ينتبّه العالم اليوم الى التنين الآخر المستيقظ هو الآخر منذ بعض الوقت بعد نكسة انهيار الاتحاد السوفياتي، وتصح فيه تسمية التنين الأبيض الروسي. واذا كان من الحكمة التحذير من تنين أصفر مفترض انه نائم، فمن الأجدى التنبّه الى خطر استفزاز واستثارة تنين أبيض متيقّظ ومتحفّز دائما مثل روسيا! وقد وجهت القيادة الروسية رسالة مذلّة ومهينة الى من يقف وراء هجمة الطائرات المسيّرة ال ١٣ على القاعدتين الروسيتين في سوريا، باسقاط ثمان منها بتفجيرها في الجو، والسيطرة الكترونيا على خمس وسوقها مخفورة الى الهبوط في القبضة الروسية! وهذا الحدث النوعي الكبير في مغازيه قد يشكّل تحوّلا في سلوكيات الاستراتيجية الروسية السوبرذكية، في المواجهة على الصعيدين الاقليمي والدولي! وقد اعتمدت الاستراتيجية الروسية حتى اليوم أساليب السياسة الناعمة والهادئة وطويلة البال والنفَس، في التعاطي من كبار هذا العالم وصغاره على السواء! وقد ننتقل الى التعامل معهم لاحقا باللغة التي يفهمونها!
المفارقة الطنّانة في عالمنا المعاصر، ان مستوى القيادة في الدولة الأعظم الولايات المتحدة الأميركية يزداد انحدارا ومحدودية أفق عهدا بعد عهد، بينما تزداد القيادة في العالم الموازي مثل روسيا والصين تألقا وحنكة وذكاء واقتدارا! وبدأ الانحدار الأميركي مع جورج بوش الإبن، ويزداد مع الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي لحس تهديده وتراجع عنه بمعاقبة الدول التي لا تصوّت لمصلحة أميركا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وها هو اليوم يتلقى صفعة جديدة باجماع الدول الأوروبية على التمسك بالنووي المعقود مع ايران بينما تهدّد أميركا بالانسحاب منه!
سقطت الهيبة الأميركية مع ترامب، وبدأ العالم يتحرر من الهيمنة الأميركية!