IMLebanon

اللوبي الصهيوني» يهزم حرية النشر بباريس

 

بول شاوول

وأخيراً تراجعت «غاليمار» كبرى دور النشر الفرنسية عن إصدار كتابات الروائي الكبير سيلين «المعادية للسامية»، ضغوط هائلة من جهات عدة، مُورست بطريقة «شعبويّة» من اللوبي اليهودي في فرنسا، ومشتقاته، وروافده من نقاد و«مفكّرين»، وأدباء.

 

لكن المسألة لم تحظَ بالإجماع، إذ انقسم المثقفون الفرنسيون حول ضرورة نشر «غاليمار» الكتاب، أو منعه. في الحالة الأولى انبرى كتّاب يرون أن منع الكتاب هو ضرب للديمقراطية، ولحريّة التعبير، ولا أحد يحل محل القارئ. فهو المرجع، الأول والميزان. ومن الطبيعي أن تبرز قراءات متعددة للعمل الأدبي أو السياسي أو الفني، فهذا من صميم إرث الثورة الفرنسية، مستندين إلى أن سيلين يعتبر من كبار الروائيين ليس في بلاد بلزاك وستاندال، وإميل زولا، بل في العالم. وعلى الناس أن تعرف أعماله كلها، ومن مختلف زواياها الإبداعية والسياسية والاجتماعية، فكتابات سيلين بعضها «مرفوض»، وآخر مقبول، والباقي هو مسؤول عنه، لا الرقابة، ولا السلطة الدينية، ولا الاجتماعية السائدة…

 

قد تكون آراء سيلين المعادية للسامية «متطرفة» بالنسبة إلى البعض أو«عنصرية»، تمس «قدسية» بني صهيون الذين يحتلون فلسطين ويمضون قتلاً وتشريداً وتنكيلاً وقمعاً بالشعب الفلسطيني.

 

لكن كل الآراء قابلة لأن تكون «إشكالية»، وسجالية، ومن حق الجمهور أن يكوّن فكرة شاملة عن صاحب التحفة الروائية الكبرى «رحلة إلى أقصى الليل»، وليس من حق أحد، مهما تعرّض لضغوط خيانة هذا المبدأ المعمول به، ولو كانت داراً عريقة كـ«غاليمار». فهذه الدار يفترض أن تكون كما يقول المؤيديون لنشر كتاب سيلين، لكل المواقف والآراء، من دون استثناءات. أهي فكرة تقديس السامية (وهل اليهود وحدهم ساميّون؟)، وتبجيلها، وتحريم كل من يناقشها، أو يحلّلها، أو ينتقدها، أو يراجعها في ممارسة أصحابها الأشد بربريّة؟

 

أما «الهتّافون» لمنع نشر الكتاب، فكأنهم «يكفّرون» (ولو بطريقة مدنية)، مثل هذه الآراء التي تهدّد «الشعب اليهودي ودولته المغتصِبة». وهي تجاوز خطير لما بات إجماعاً حول أبلسة مَن يقارب هذه المسألة «الإلهية» بل وصل بهم الأمر إلى تصنيف كل مَن يتخطّى هذه الحواجز، بأنّه يخدم «الإرهاب الفلسطيني والداعشي». كأن ترى إرهابياً مشهوداً له مثل بنيامين نتنياهو يكفّر من اغتصب أرضهم، وحاول «محو» شعبهم، (فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض!).

 

انتصار صهيوني

 

إنّ انتصار اللوبي «اليهودي» في فرنسا، هزيمة لتاريخ هذا البلد «العلماني»، المدني الذي فصَلَ الدين عن الدولة (وعن المجتمع) بقانون أقرّ عام 1905، وانكسار لنهضته، وحركة تنويره، وحرياته. لكن كيف صارت «غاليمار» تجمع بين مراتب تقديمها الفكرية والأدبية (الحديثة)، وبين تبنّيها نزعة عنصرية ضد كاتب كبير؟ ألا يحق لأي كان أن يعيد مثلاً النظر بإعداد ضحايا الهولوكست: فإذا نقص العدد عدة أشخاص فالفاعل معادٍ للسامية، ومن ينتقد تاريخ اليهودية، يمنع من النشر كغارودي مثلاً صاحب كتاب «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل». هل انحازت «غاليمار» رغماً عنها أخيراً إلى نزعة الخرافات والأساطير وشعبويّة العنصر الجوهرية حتى في وجود إسرائيل الحديث؟ نحن نعرف، بحسب اطلاعنا، أنّ هناك دُوراً في باريس وأبعد منها، مرتبطة باللوبي الصهيوني، وتنشر الأكاذيب حول المقاومة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، وقضيّته المحورية، فلماذا لا يسعى المثقفون إلى اعتبار هذا الدعم غير المشروط، منافياً للقوانين الدولية، والأعراف السياسية، ومعادياً للشعب الفلسطيني والإسلامي؟ والمسيحي؟ لماذا كل شيء مباح لهؤلاء؟ عندما كفَّرَ الخميني سلمان رشدي لنشره كتاب «آيات شيطانية» وأهدر دمه، قامت قيامة الأدباء الأوروبيين، والأميركيين مندّدين بهذا الإجراء «غير الديموقراطي» الفاشي، الذي يمسّ «قداسة» حرية التعبير، وبادروا فوراً إلى «ترجمته» عن الإنكليزية، ونشره بمئات ألوف النسخ؟ ولماذا لا تمنع دور النشر الفرنسية، والمجلات والصحف الأدبية والسياسية اليوم «أبلسة» الدين الإسلامي كلّه، من دون التمييز بين حركات «إسلامويّة» متطرّفة إرهابية، وبين مليار مسلم في العالم، شملتهم كلهم، (مع القرآن) بالإرهاب؟

 

هذه المنابر نفسها، والخاضعة للتأثير اليهودي، سبق أن وصفت المقاومة الفلسطينية وعرفات والشعب الفلسطيني بالإرهاب.

 

عقاب جماعي

 

الكل بجريرة واحد، والواحد يعني الكل. معاقبة جماعية، كأنّهم يكرّرون تجربة هتلر العنصرية بتصنيف شعوب الأرض، في خانات: من يستحق الحياة، أو من تجب إبادته ولماذا وفي المقابل، يمنعون تشبيه شارون (غزا لبنان) أو نتيناهو (فاسد ومجرم) ومثلهما الإرهابي بيغن، بالنازية في تعاملهم مع شعب كامل؟

 

شيزوفرانيا؟ أكثر! وتتأكد منها عند بعض الصحافيين والفلاسفة (هنري ليفي، وفانكلروت، واريك زمور (لوفيغارو)، عندما يتهافتون على إدانة ما يجري من اضطهاد على شعوب العالم… لكن عندما يصلون إلى «مربط خيلهم» في إسرائيل، يبرّرون كل جرائمها، وانتهاكاتها! فهنري ليفي (مجلة «لوبوان»)، رأى في بعض مقالاته أنّ من حق إسرائيل بناء جدار فاصل حماية لأمن شعبها، في الوقت الذي سبق أن هلّل لسقوط جدار برلين، واستنكر مشروع ترامب بناء جدار فاصل مع المكسيك! أما «الفيلسوف» فانكلروت، اليهودي المتطرف، فهو يحاول في كتاباته إظهار أن «الإرهاب» الإسلاموي هو جزء من العقيدة الإسلامية، (بمرجعية القرآن). ولا نعرف ما إذا كان «فيلسوف» الميديا والإعلام الموجّه قد قرأ القرآن حتى من باب الفضول. فالتوراة، كما يورد في بعض مواقفه هو الكتاب المقدس، والمرجعية السامية لليهود، يحمل قيمة تاريخية، تؤكد ما تؤكد من مشاريع «إسرائيل الكبرى» (سفر التكوين)، أو حق الشعب اليهودي باسترداد «أرضه» من الغزاة الفلسطينيين والعرب.. لكن ماذا لو طالب الهنود الحمر اليوم (افتراضاً)، باسترداد أراضيهم التي استولى عليها المهاجرون، والأميركيون، بالقوة، والمجازر، التي سفكت دماء نحو 20 مليون هندي. بل أن هناك من يشبّه أميركا بأنّها قامت على جثث الهنود، ودماء الزنوج؟

 

فإذا عدنا إلى التواريخ والجغرافيات القديمة (والحديثة). فمن السهل أن نجد الانتقالات والتحولات والأوطان المتغيّرة، عند الشعوب. فالماضي العميق، مسألة ثقافية وتاريخية، وحضارية، وليس مساحة للسكون الأبدي. ومن يطلع، على آثار الفتوحات، والامبراطوريات، والثورات وانتقال الناس بين جغرافيات عدة، سواء بسبب الحروب، أو التغيرات المناخية والبيئية؟ وهنا يمكن أن تتدخل لعبة الأساطير والحكايات، وحتى الخرافات والخطر في اعتبار هذه الظواهر الموروثة، أو المتخيّلة، كحقائق تاريخية، ووقائع دامغة.

 

كفرة الشرق

 

إسرائيل، حوّلت التوراة من كتاب زاخر بالأناشيد والأساطير إلى مرجع تاريخي، بل إلهي «مؤكدة» أن الله خالق الكون والكواكب والبحار… قدّس بنفسه شعبها باعتباره «شعبه المختار». فلماذا لا يكون الإسلام بقرآنه، والمسيحية بأناجيلها، أيضاً شعبيه المختارين. أصولية «تاريخية» مستمدة من «إرادة إلهية»! أوَليس هذا ما يفضّله «داعش» عندما يكفّر كل الأديان المفترض أنها «سماوية»؟ أوليس هذا ما وقع فيه الأوروبيون بحملاتهم الصليبية، عندما جاؤوا ليحاربوا «الكفرة» في الشرق، أي الإسلام؟ بل أوَلم يعمد الغرب إلى اضطهاد اليهود قروناً… لأنهم «قتلوا» المسيح؟ أوَليس هذا ما ورثه هتلر معدلاً بصيغة «عرقية» جرمانية وإيديولوجيا نازية؟ إذاً ما حكاية «تقديس» السامية التي صادرتها إسرائيل؟ وكيف نفسّر أن طائفة الإنجيليين الأميركيين اعتمدت «الكتاب المقدس» (التوراة) وضمّت الأناجيل إليه كملاحق؟ فأين مسيحيّو العالم؟ لكن الأدهى، محاولات (اللوبيات الصهيونية في هوليوود وسواها) لتشويه صورة المسيح، وتشبيهه أحياناً بدراكولا (مصاص الدماء)، وأخرى بالمجرمين، من دون أن يرتفع صوت مثقّف مسيحي أو علماني، كاثوليكي أو أرثوذكسي؟ وما زلنا نذكر الحملة اليهودية التي نظّمت ضد فيلم «عذابات المسيح» لميل غيبسون، والذي يتميّز بالعنف المادي والجسدي على المسيح في جلجلته. قامت القيامة ضد غيبسون، واعتبروا فيلمه «معادياً للسامية». أكثر: حُوصر المخرج والممثل من قبل المرجعيات «الهوليوودية» (ومن لا يعرف أن هوليوود مسألة يهودية من أولها إلى آخرها؟). عدة سنوات، ونبشوا تاريخ والده القس ليجدوا أنه «متطرف ضد اليهودية!».

 

ذهنية النشر

 

تابعنا طويلاً ذهنية دور النشر الفرنسية، التي كانت إذا وقعت على قصيدة غير منشورة لشاعر راحل، تحرص على نشرها، لتكتمل الرؤية الكتابية. وأتذكر أنه بعدما توفي الشاعر الكبير سان جون برس، نشرت جريدة «لوموند» في صفحتها الأولى قصيدة له من عدة أسطر بعنوان “جفاف”، واعتبر ذلك انتصاراً ثقافياً وصحافياً، بغض النظر عن قيمة العمل الإبداعية… وهكذا فعلت دور النشر مع إرث إليويار وبروتون وألبير كامو (رواية «الرجل الأخير» غير المكتملة)، وهذا ما جرى مع شكسبير عندما اكتشفت مسرحية مفقودة أو ضائعة له… هبّت الصحافة كلها، ونشرت المسرحية برغم تشكيك بعضهم بهويّتها.

 

إذاً لِمَ الاستثناء؟ أترى يتمتع اللوبي الصهيوني في فرنسا، بمثل هذه القوة وهذا النفوذ، حتى تنكسر القواعد والأعراف دونه؟ أكثر: إسرائيل تمنع منذ قيامها تقديم أعمال فاغنر (أحد عظام الموسيقى الألمانية)، ولم نسمع صوتاً واحداً ندّد بهذا الإجراء، في الوقت الذي ينتفض فيه المثقفون إذا مُنع كتاب في العالم العربي، أو مقالة…

 

أخطأت «غاليمار» هذه الدار الكبيرة بتاريخها، في خضوعها لابتزاز اللوبي الصهيوني، علماً أن عدداً كبيراً من المثقفين الكبار، انحاز إلى نشر الكتاب.

 

فلماذا رجحت كفّة الشعبويين؟ ألا يحق للعالم أن يعرف رأي سيلين في المسألة اليهودية، وأن يتّخذ موقفاً معادياً لها، أو حتى مؤيّداً للنازية. (طورد سيلين طويلاً وهرب إلى بلدان عدة تجنباً لمحاكمة تدخله السجن، بل مُنعت أعماله مدة طويلة عقاباً على آرائه).. ومن لا يعلم أن الجنرال بيتان كان رأس الحرب النازية في فرنسا أثناء احتلالها لفرنسا، إذاً، فليمنعوا الكتب عنه، ولضباطه، ولعديد من الكتّاب والمفكرين الذي أيّدوا حتى الاحتلال النازي لبلدهم؟

 

لعبة الأقنعة هذه، والكيل بمكيالين، والنظر بعين واحدة، فإذا كان الأمر كذلك، فمن السهل علينا رؤية ما حلّ بالتنوير الفرنسي، والديمقراطية… في التراجع أمام القوى العنصرية، والشعوبية، التي تنفي كل ما هو ديموقراطي، ونهضوي، وثقافة حرة. كلنا تابع خريطة الأحزاب التي رشّحت قادتها في المعركة الانتخابية الرئاسية الأخيرة: فلنراجع شعارات هؤلاء العنصرية (ضد الإسلام والعرب)، لنفهم ما معنى «دار غاليمار» أمام اللوبي الصهيوني!