هل صحيح ان حوار ساحة النجمة برعاية عرّاب الحوارات الوطنية الرئيس نبيه بري في خطر؟ وما الذي يمكن ان يؤدي فعلاً الى ارفضاض طاولته المستديرة المنصوبة منذ نحو اسبوعين؟
البعض قد يتملكه الاستغراب من اثارة هذا السؤال التشكيكي، خصوصاً ان الحوار ما فتئ طري العود لم يعقد سوى جلسته الثانية، وان المناخات التي رشحت عن اركان هذه الجلسة كانت ايجابية، لا بل ان البعض اصر على وصفها بأنها اكثر ايجابية من سابقتها، لا سيما ان الامر انتقل الى صلب الموضوع بعدما طلب بري من المشاركين أفكاراً بديلة تتصل بالبند الاول من جدول اعمال الحوار وهو بند ملء الشغور الرئاسي.
مع وجاهة هذه القراءة فان اللافت ان راعي الحوار اطلق خلال الساعات القليلة الماضية ومن خارج كل التوقعات اكثر من رسالة تنطوي على ما مفاده ان الحوار مرشح للانزلاق بين لحظة وأخرى الى دائرة الخطر وان لصبره حدوداً وانه من الأساس لم يجبر أحداً على المشاركة بقوة المسدس.
بري أوحى ان مصدر الخطر على الحوار متأتٍ من مكانين: الأول تخلف رئيس “تكتل التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون عن المشاركة شخصيا في طاولته، والثاني ان هناك في الطاولة اياها من لوح بانه مستعد لإعادة النظر في مشاركته. ردُّ بري كان حازماً وقاسياً: لا أحد يهددني، فالحوار مصلحة وضرورة للجميع والكل ارتضى استهلالاً المشاركة عن طيب خاطر.
وبالاجمال فان بري يوحي ضمناً بأن غياب عون هو الذي يفتح ابواب العصف على طاولة الحوار. ومن البديهي ان البعض وجد في ثنايا كلام رئيس المجلس تحميلاً لزعيم التيار البرتقالي تبعة احتمال انفراط سبحة نسخة الحوار الثالثة اذا ما أتى حين من الدهر وانفرطت حبات هذه السبحة، خصوصاً ان ثمة مقدمات توحي بأن مسار العلاقة بين هذين القطبين ليس على ما يرام. في حين أن البعض الآخر يقرأ الامر من زاوية اوسع عندما يستنتج ان بري يحرص من خلال ما يطلقه من مواقف على وضع عون والجميع امام مسؤولياتهم محذرا الاطراف من مغبة دفعه للجوء الى الخيارات المرة.
وحيال ذلك ثمة من يسأل: ما السر الذي دفع عون الى قرار الاعتذار عن عدم حضور جلسة الحوار الثانية شخصيا وانتداب الوزير جبران باسيل لهذه المهمة؟ واستطراداً، هل يريد بسلوكه المباغت هذا ان يضع طاولة الحوار برمتها في عين العاصفة؟
بالطبع ثمة مستجدات طرأت أخيراً وشكلت عامل ارتياب بالنسبة الى عون جعلته يعزف عن المشاركة، وهذا المستجد تجسّد في اصرار البعض على حصر النقاش في البند الاول للحوار وصعوبة الانتقال الى مناقشة البند التالي وهو الاعز بالنسبة اليه، أي وضع قانون جديد للانتخابات. ويعزى ذلك الى أمرين، الأول ان لا آلية واضحة تجيز لبري الانتقال من مناقشة البند الاول الى ما يليه ما دام النقاش لم ينته الى تفاهم او اتفاق.
الثاني، ان ممثلي فريق 14 آذار، وتحديداً الرئيس فؤاد السنيورة، يرفضون الانتقال الى مناقشة البنود التالية ويصرون على قصر الحوار عند البند الاول الى ما شاء الله انطلاقا من مبدأ ان اسّ المشاكل هي مسألة الشغور الرئاسي.
واقع الحال هذا جعل عون يرتاب في ان هناك من يريد جعل الحوار مادة ضغط اضافية عليه في موضوع الرئاسة تضاف الى مواد اخرى داخلية وخارجية، ويرتاب في ان هناك من يخطط في عتمة لاستدراجه الى فخ ووضعه امام امر واقع لا يريده ولا يناسبه كما حصل إبان اجتماعات الدوحة.
ولان عون الذي لفحته نار تجارب سابقة اراد ان يجسد دور المؤمن الذي لن يلدغ من جحر مرتين، خطا أولى الخطوات الاعتراضية التي تنطوي في الوقت عينه على ارسال رسالة جلية الى بري والى من يعنيهم الامر. فالجنرال يعي ان ثمة صعوبة في ان يكون البادئ في تهديم هيكل الحوار كون هذا الفعل يضعه امام مسؤوليات ثقال في هذه المرحلة، لذا قرّر ان يحرّر نفسه من عبء اسره شخصياً في خانة البند الاول، وبالتالي فتح الباب نصف فتحة تسمح له بمغادرة طاولة ساحة النجمة اذا ما تعقدت الامور لاحقاً.
لقد أراد عون بسلوكه هذا ان يحاذر استدراجه الى ما يعتقد المقربون منه انه فخ، لكنه شاء في الوقت عينه ألا يفتح ابواب مشكلة إضافية مع رئيس المجلس المستفز اصلا ويكون المسبب لفرط عقد الطاولة التي ارادها بري قنطرة عبور الى اداء دور ريادي في حياة سياسية راكدة يبدو الجميع فيها عاجزين عن الابداع والمبادرة للخروج من الازمة، خصوصاً ان هناك من ابلغ بري ان عون مستعد للعودة شخصيا الى الجلسات التالية للحوار.
ومع ذلك ثمة من يطرح السؤال من منطلق آخر وهو: هل ان بري من خلال كلامه قد ولج فعلاً مرحلة البحث عن مشاجب يعلق عليها مسؤولية فرط عقد الحوار اذا ما وجد في لحظة ما ان كل الطرق قد سدّت أمامه ولم يبقَ الا هذا المنفذ المسدود؟
الذين هم في اجواء عين التينة يذهبون الى منحى آخر، فهم يجدون ان بري اختار غداة الجلسة الثانية للحوار ان يوجه رسالة “تحذير وتأنيب وتنبيه” الى عون والى باقي اطراف الحوار بغية شد العصب واعطاء الحوار الذي يقوده أهمية وقت يسعى المشاركون فيه الى التقليل منها من جهة، وبهدف الاعتراض سلفاً على تحميله وحده تبعات تعطل لغة الحوار والكلام.
وأصحاب هذا الاستنتاج ما زالوا عند “فتوى” اطلقوها قبيل انطلاق صافرة الحوار جوهرها ان الحوار لن يكون داني القطوف، او على الاقل لن يكون أثمر من سابقيه ولكنه سيكون ملاذ الجميع وحصنهم وحاجتهم في لحظة مفصلية وذلك بفعل وقائع عدة أبرزها:
– الحاجة الى فعل او حركة سياسية من شأنها ان تساهم في امتصاص صدمة حراك الشارع. وليس صائبا كلام بري على ان المتحاورين لم يسمعوا في الجلسة الثانية دويّ المشاركين في الحراك ومحاولاتهم المتكررة اختراق الحواجز والسدود الحائلة دون الوصول الى تحت نافذة غرفة الحوار في ساحة النجمة، فالحوار صار رقماً صعبا ينبغي تغيير النظرة اليه.
– ادراك كل الافرقاء ان ثمة صعوبة كبرى في مرحلة “ادارة الفراغ” التي انيط امرها الى الحكومة الحالية، ذلك أن ثمة مستجدات أكبر مما كان مقدراً ان تحدث، وثمة في المقابل عجز من جانب المولجين عن اداء المهمات المنوطة بهم.
– الحاجة الى اعطاء انطباع للداخل والخارج بان الاطراف الداخليين مستعدون لملاقاة أي تسويات قد تتم للملفات الاقليمية.
وعليه تصير مهمة المضي قدما بالحوار امرا بالغ الاهمية لبري ولغالبية القوى المشاركة في طاولته، ويصير أمر حراسة طاولة الحوار مهمة الجميع ايضاً.