اختُتِمت مهرجانات الأرز الدولية للعام 2016 في نهاية الأسبوع الماضي. قيل الكثير عن المهرجانات ولجنتها، ورئيستها، وعن الحفلات والفنانين الذين أحيوها. بعيداً من كلّ ما قيل وسيُقال في هذا الإطار، يستحق تنظيم هذا المهرجان تحيّة. أمّا المكان، وعن أيِّ مكانٍ نتكلّم! للمكان روحية خاصة، لا بل قدسيّة. قدسيّة الشعور. شعورك يتغيّر هناك. حتى الرائحة تختلف! هناك… ما بين غيوم السماء وضباب الوادي. ما بين أحضان أرز الرب وسماء الإنسان.
إلى بشري تصل لحضور إحدى حفلات المهرجان، تُستقبَل بوردة وابتسامة وزجاجة مياه. لا داعي لأن تسخّر تركيزَك لتحفظ الطريق ذهاباً كي لا تضيع إياباً. الأضواء تدلّك.
عناصر القوى الأمنية وطلاب القوات اللبنانية يدلونك في حال أضعت طريق الأرض. ولكن لن يستطيعوا منعك من إضاعة روحك. لربما تضيعها، ولربما تجدها. الأكيد أنّ تفاعلاً ما سيخلق ما بينك وبين الأرض. لربّما الروح مجبولة أيضاً من تراب، أو أنّ تراب تلك الأرض مجبول من أرواح.
من شربل إلى جبران
من بقاعكفرا ضيعة القديس شربل تمرّ طريقك. إن سنح لك الوقت وزرت منزل شربل وارتويت من ماء بئر أعجوبته ومن كلمات راهبة تخبرك قصة الأعجوبة بشغف ولدٍ يخبر قصة لوالدته للمرة الأولى، لفقدتَ شيئاً من هموم النفس، ومشيت بصمتٍ مبتسم.
في متحف جبران خليل جبران يحضنك الوَجْدُ. الشغف في رسوماته، في كتاباته، في أفكاره، في فلسفته، في أغراضه، في وقوفه هناك يهمس في عقلك: «أنا حيّ مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك».
تلتفت وتراه، كما ترى أمامك في الخارج لوحة طبيعية خلّابة أكثر بقليل من الجمال. أكثر بكثير. بشري وكنائسها ولفحات الهواء الطالع من وادي القديسين، تمثال جبران وسلام المكان. زوّادة ثقافة وسلام. وعليك السلام.
عمق الوادي… وعمقك
هناك في الوادي المقدس، كان مقرّ البطريركية المارونية من العام 1400 حتى العام 1790، هناك يجري في عمقه نهر قاديشا الذي ينبع من مغارة تقع عند أقدام «أرز الرب» التي تُشرف عليها «القرنة السوداء»، أعلى قمم جبال لبنان. هناك أنواع مختلفة من النباتات… هناك ترى الخضار بتجلّياته كافة. هناك الأديرة والمغاور والنساك، الرهبان والمقاومون، تاريخ المسيحيين، الكرامة والصمود. الحرّية.
هناك في وادي قنوبين من أعمق وديان لبنان، تصل إلى عمقك، إلى أعمق بقعة داخلك. تلك التي لا باب لها، تلك التي ما زالت عذراء، لم تطَلها شرايينُ الإحساس. في الوادي تكتشف معالمها كما تكتشف معالمه. تكتشف نفسك. ستركض فرحاً، ستصلّي باكياً، ستصرخ تأوّهاً، ستحرّر نفسك… تحرّر روحك. ستكتشف أنك حرّ، أنك أنت. ستلمَس داخلك الحقيقي للمرة الأولى.
ترتفع جسدياً وروحياً، وتمرّ داخل بشري. بشري جمال الطبيعة والناس. الناس الجبال. تعرّج على مار جرجس وتزوره في كنيسته الحجرية القديمة المشرفة على «تمّ» الوادي. لا يمكن أن لا يجتاحك شعورٌ جامح برمي نفسك من هناك لتحلّق بين جبلين وتتهاوى ببطءٍ إلى العمق مجدّداً. عمق الوادي وعمقك.
صعوداً إلى الأرز، المغيب من هناك ليس مغيباً. لا يُشبه أيّ مغيب. الشمس تنفجر فوق قبل أن تختفي، تلفّ برِداء نورها السماء والجبال والوادي، فتمسح وجه الأرض ووجوه الناس لتندمج بالبحر البعيد القريب.
الصلاة… ركوعاً
مَن وصل إلى «الصليب» مرة لا يمكن ألّا يعود. تمشي سيراً على الأقدام في طريقٍ لم يشوّهها الزفت بين صوت «زيز» وشوك وتراب. إمشِ ستصل. تصل إلى مكان «الصليب»، وتتفرّج، وتنبهر. من الأعلى تظهر الأشياء على حقيقتها. من البعيد ترى المشهد كاملاً. عِش الجمال، وقُل «ألله».
وبعد، إلى غابة الأرز الخالدة. عمرها حوالى 2500 سنة، عمرك في حضرتها أوّل صرخة. هي تربض في أحضان جبل المكمل مشرفة على الوادي المقدّس، وأنت تربض بين أحضان أقدم أشجار الأرز في العالم، التي يصل عمر أكبرها إلى أكثر من ألف سنة، وحتى 2500 سنة. الأرزات التي حمّلها رودي رحمة أوجاع المسيح تستقبلك أو تودّعك. تجلس هناك ترفع رأسك، تتأمّل، تتألّم. تفكّر، تسرح وراء شعاع الشمس. يخيّم الظلام. يبقى الخلود.
صوت اللاصوت في الليل الأسود البارد لا يُسمع بصفاء إلّا فوق. هناك حيث يطلع القمر من خلف التلال، فتراقبه يتمخّض بخجل من وراء الجبال، ليظهر مكتملاً باستكبار مَن يعرف أن لا مكان لغيره في قلبك. في الغَلَس (ظُلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح) تركع وتفتح ذراعيك للسماء… هناك حيث تحلو الصلاة لله، للحبيب، لمَن تشتاق، لمَن تشدّك الصلة إليه. تركع تحت أحلى سما وتصلّي.