من حسن الحظ أنّه لا يزال في لبنان رجال حقيقيون يسمّون الأشياء بأسمائها ولا يتلطون خلف الشعارات الطنانة والفارغة لتجاهل كلام في غاية الخطورة. هذا الكلام الخطير الذي ردّ عليه الرئيس سعد الحريري ليس الأوّل من نوعه. الجديد فيه أنّه صدر عن الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي يوجد من يريد الترويج له بأنّه شخص «معتدل» و«إصلاحي». يصعب بعد الكلام الذي قاله روحاني وصفه بـ«معتدل» أو «إصلاحي». كلّ ما هناك أنّه مسؤول إيراني آخر يريد التباهي بأنّ ايران باتت تتحكّم بأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. كلّ ما فعله الرئيس الإيراني أنّه أعاد التذكير بما صدر عن مسؤولين إيرانيين احتفوا في الواحد والعشرين من أيلول (سبتمبر) بمدى توسّع النفوذ الإيراني بعد سيطرة الحوثيين (أنصار الله) على صنعاء.
قال روحاني بالحرف الواحد: «إنّ أيّاً من العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج (…) لا يستطيع اتخاذ إجراء حاسم من دون إيران ورأيها».
على العكس مما كان يعتقد، ظهر الرئيس «الإصلاحي» في مظهر من يعمل على توسيع إطار المشروع التوسّعي الإيراني بزيادة شمال افريقيا والخليج العربي على العراق وسوريا ولبنان. من في الخليج العربي يقبل الإملاءات الإيرانية وعن أي دولة في شمال أفريقيا يتحدّث روحاني؟
تبدو حصيلة كلام الرئيس الإيراني أنّ الرجل في حاجة إلى أن يظهر مزيداً من العدوانية لإثبات وجوده في المعادلة الداخلية الإيرانية، في ظلّ الفشل المستمرّ لكل محاولاته الهادفة إلى الإيفاء بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية التي أعادته رئيساً للجمهورية.
كان مهمّاً أن يرد الرئيس الحريري على روحاني بتغريدة ورد فيها أنّ «قول روحاني إنّ لا قرار يتّخذ في لبنان من دون إيران قول مرفوض ومردود على أصحابه». وشدّد على كون «لبنان دولة عربية مستقلّة لن تقبل أيّ وصاية وترفض التطاول على كرامتها». معنى ردّ رئيس مجلس الوزراء اللبناني أنّه لا يزال في لبنان رجال يدافعون عن كرامة البلد في وجه المتطاولين عليها بدل التظاهر بأنّهم لم يسمعوا كلام الرئيس الإيراني. هناك في لبنان من لا يزال يقاوم لا أكثر ولا أقلّ. يمثّل سعد الحريري المقاومة الحقيقية للمشروع التوسّعي الإيراني الذي رأس حربته «حزب الله». يسعى هذا المشروع إلى تحويل البلد مستعمرة إيرانية تحت شعارات مزيّفة وذلك من أجل نشر البؤس والفقر والجهل والتخلّف وإثارة العصبيات المذهبية وجعل لبنان مجرّد ذيل لـ«محور المقاومة والممانعة».
إذا أكّد ما صدر عن روحاني شيئاً، فهو يؤكّد أنّ كل كلام عن وجود «إصلاحيين» و«متشددين» في إيران لا معنى له، بل إنّه ليس كلاماً في محلّه. هناك «إصلاحيون» في إيران، لكنّ هؤلاء إما في السجن وإما في الإقامة الجبرية وإما يعانون من تضييق يومي عليهم. مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي في الإقامة الجبرية، فيما يتعرّض الرئيس السابق محمد خاتمي الذي يتمتع بشعبية واسعة في كلّ الأوساط الإيرانية لمضايقات تحدّ من حرية تحركّه وتمنع أي ظهور له. ما هذا النظام القوي الذي يخشى محمد خاتمي لمجرد أنّه يقول كلاماً مفهوماً من معظم الإيرانيين؟
الأكيد أن هناك من سيسعى إلى التخفيف من وقع كلام روحاني وإيجاد أعذار له بحجة أنّه في حاجة هذه الأيّام للمزايدة على «الحرس الثوري» الذي بدأت الإدارة الأميركية تعي مدى خطورته. يبقى إيجاد الأعذار لروحاني شيء والواقع الإيراني شيء آخر. يتمثّل الواقع الإيراني في وجود نظام قائم على نظرية ولاية الفقيه صار «الحرس الثوري» عموده الفقري. نجحت إيران إلى حدّ كبير في نقل تجربتها إلى العراق حيث صار رئيس الوزراء حيدر العبادي مضطراً إلى الردّ على وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأنّ «علينا تشجيع مقاتلي الحشد الشعبي لأنهم سيكونون أملاً للبلد وللمنطقة». ما هذا الأمل المتمثّل في ميليشيات مذهبية تتلقى أوامرها من طهران، من «الحرس الثوري» تحديداً، وتُمارس الإرهاب بأبشع أشكاله حيثما حلّت. كانت ممارسات «الحشد الشعبي»، قبل أيّام قليلة، في كركوك التي هُجر منها نحو مئة ألف كردي خير دليل على «الأمل» الذي يحمله هذا «الحشد» الذي سبق له وكشف عن حقيقته في بغداد ومحيطها وفي الموصل، على سبيل المثال وليس الحصر. كشف عن طبيعته كأداة لممارسة كلّ أنواع التطهير السكّاني حيثما حلّ. التطهير بطابعه المذهبي أو بطابعه القومي كما حصل في كركوك.
لا حاجة إلى تكرار الكلام عن الدور الإيراني في سوريا وعن مشاركة النظام في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري تحت غطاء مواجهة «داعش»، ولا حاجة إلى الانتصارات التي حققتها إيران على لبنان بحجة أنّ «حزب الله» يمثل «مقاومة» في وجه إسرائيل. كلّ ما يمكن قوله حالياً إن إيران تجد نفسها في مواجهات تحديات جديدة بسبب وجود إدارة دونالد ترامب. لم يكتفِ الرئيس الأميركي في الخطاب، الذي ألقاه في الثالث عشر من الشهر الجاري، بشرح تفصيلي لما هي السياسة الإيرانية معززاً شرحه بالوقائع بدءاً باحتجاز ديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران في العام 1979 لمدّة 444 يوماً، بل ذهب نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى القول في الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لتفجير مقر «المارينز» قرب مطار بيروت: «كان تفجير مقر المارينز بأوامر إيرانية الشرارة الأولى لانطلاق الحرب على الإرهاب. إن حزب الله جماعة إرهابية وكيلة للراعي الأساسي للإرهاب، أي إيران (…)».
من الواضح أن روحاني يقول كلاماً كبيراً بسبب شعوره بعمق التغيير الأميركي في التعاطي مع إيران. من إدارة على رأسها باراك أوباما مستعدة لكلّ شيء من أجل استرضاء إيران… إلى إدارة ترامب التي لا تتردد في القول إن إيران «راعية الإرهاب في العالم»، ثمة فارق كبير.
قد تنفّذ أميركا دونالد ترامب ما وعدت به على الصعيد الإيراني، كما قد تتراجع كما فعلت إدارة رونالد ريغان بين 1980 و1988. يبقى أن الحسنة الوحيدة، إلى الآن، للإدارة الأميركية الجديدة أنّها كشفت حسن روحاني على حقيقته. انّه فارسي آخر يكن كلّ احتقار لكلّ ما هو عربي في المنطقة.. بدءاً بالخليج وصولاً إلى شمال أفريقيا.