على وقع مسلسل الأحداث الإرهابية في كل من بيروت وباريس وقبلهما في مصر وتركيا، التأم المعنيون بالأمن العالمي وباقتصاده في فيينا وفي قمة العشرين في انطاليا. في فيينا إقترنت الأزمة السورية بالبحث في كيفية مواجهة الإرهاب. وجهان لعملة واحدة، ارهاب النظام وارهاب داعش. ما الفرق بين أن تُذبح من قبل إرهابي أو أن تقضي تحت برميل متفجّر أو بجرعة من غاز الخردل أو الكلور؟!. للموت نكهة واحدة سواء في سوريا أو في باريس.
المجتمعون الناظرون في مكافحة الإرهاب وفي إيجاد حل للأزمة السورية، ليسوا مرجعية دولية مجرّدة يتم الإحتكام إليها من قِبل متخاصمين على شأن داخلي. إنّهم موجودون في مسرح العمليات، جغرافياً بحكم الموقع، أو من خلال التدخل العسكري من ضمن التحالف الدولي. هم أصحاب الجيوش والأموال، هم أصحاب مصانع الأسلحة والتقنيات العسكرية الفائقة الدقة، وهم أصحاب القرار وراسمو السياسات في المنتديات والمنظّمات الدولية.
داعش هي الجيل الجديد للفكر السلفي الذي نما وترعرع مع بداية تشكيل منطقة الشرق الأوسط، على يد المجتمعين، وفق مبدأ اختلاق البؤر المذهبية والإثنية للعبث بأمن الإقليم وتدمير مستقبله والسيطرة على ثرواته. ليس من العسير إستنهاض العصبيات المذهبية، وليس من العسير التلاعب بالموروث الثقافي لإثنية ما، لا سيما في ظلّ ظروف القهر والفقر والجهل التي لم تستفق منها بعد الأجيال المتعاقبة في هذه المنطقة. السياسات الدولية في منطقة الشرق الأوسط ارتكزت على أرضية التلاعب بالمكوّنات الديمغرافية والثقافية، وأمعنت في تجذير ثقافة العنف الديني على يد أجيال من خريجي مدارس الإستشراق الذين أتقنوا تحريك أدوات الصراع.
الفصل الأهم الذي ارتكز عليه النظام الدولي في تجهيل وتدمير المنطقة العربية كان في أجيال من دكتاتوريين أُطلقت يدهم، ودائماً تحت الحماية الدولية، لتدمير المخزون الثقافي والحضاري والقضاء على مقومات الإنتماء الوطني، وقد أصبحوا يتقنون لعبة أسيادهم، كلّ ضمن حدوده. وحتى الآن يتم استنساخهم. في هذا الشرق الأوسط الفاقد التوازن، القوى الإقليمية باتت مصدراً للعرقلة، وامتلكت القدرة على إنتاج الأزمات، تعلّمت لعبة الكبار ومارستها في ظلّ غياب نظام دولي واضح. الإقليم كله حاضنة لدول إنهارت هياكلها ومؤسساتها وارتدّت إلى مكوّناتها الطائفية والمذهبية والقبلية.
إنّ تسوية الأزمات هي المدخل للقضاء على الإرهاب. كيف يمكن مقاربة ظاهرة الإرهاب في ظلّ جرح نازف في العراق وبغياب شركاء اقتلعتهم سلطة رعناء فشلت في بناء نظام سياسي، وانخرطت طرفاً متقدّماً في صراع مذهبي. وما ينطبق على العراق ينطبق على سوريا. وبينما يبحث العالم عن حل في سوريا يزداد تفكك الجماعات الأهلية ومعها مؤسسات الدولة وإقامة مؤسسات بديلة عن كلّ السلطات من المستفيدين الفاسدين ومن حملة السلاح ومن يمدهم بالدعم.
إنّ الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون لم تعد تسمح بترف الخلاف على جدول الأولويات أو على مستقبل رئيس جمهورية. وأي رئيس؟ ففي وسط الدمار الشامل الذي يطال مقومات الدولة السورية كافة، وفي خضم قوافل الموت من الشعب السوري، وبينما يجهد حلفاء النظام في البحث عن «عناوين مقاوِمة» تُبرر هذا التحالف، يُعرب الخبير الروسي الإسرائيلي «أفيغدور إيسكين» عن غبطته بما يعتبره تطوراً تاريخياً في التحالف العسكري بين روسيا وإسرائيل في سوريا، وهو يدعو إلى تعزيزه لمواجهة تخبط سياسات الإدارة الأميركية الذي بات يشكّل تهديداً لأمن إسرائيل. ويضيف إنّ ثمة إرتياحاً متبادلاً إلى مواقف الطرفين من الأزمة السورية يؤسس لتعزيز التحالف، فالتزام إسرائيل الحياد الإيجابي والمقصود به عدم التدخل مع محاولة دعم نظام بشار الأسد بشكل حذر، سهّل للإسرائيليين القيام بمناورات لا تُحرج موسكو. في المقابل فإنّ التدخل العسكري الروسي ضد الإرهابيين يعزز حرب إسرائيل على المنظّمات «الإرهابية» في المنطقة، خصوصاً أنّ الرئيس بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو إتّفقا خلال لقائهما في موسكو على أن دعم الرئيس الأسد يجب أن يترافق مع عدم السماح بتحقيق حزب الله مكاسب معنوية أو ميدانية. إسرائيل تتصرف منفردة للدفاع عن مصالحها خلال الأزمة السورية وباتت تنسّق كلّ خطواتها مع الحليف الروسي لدرجة بلوغ استراتيجية عسكرية مشتركة.
كيف سينصّف التاريخ من يتمسّك برئيس يجاهر بضمانه لأمن اسرائيل في حين يلتمس رئيس وزرائها من الرئيس الأميركي عدم استبعاده ويعترف جهاراً بالتنسيق مع جبهة النصرة؟ إنّ المهلة التي تفصلنا عن رحيل الأسد عن السلطة هي المهلة اللازمة لتسوية ملفات النفوذ للاعبين في الإقليم، من التعديلات الدستورية وتغيير الحكام إلى أمن إسرائيل وأمن البحر المتوسط ومستقبل النفط إلى سلاح حزب الله، وهي قطعاً ليست المهلة التي تتيح للنظام تغيير الواقع الميداني. وهناك دائماً من يُجيد قراءة التاريخ.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات