قول وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لوسيلة إعلامية إسبانية عن أنّ بلده «كانت تدعم الرئيس سعد الحريري منذ البداية، ولكن هناك تحدّيات جديدة، تجعل الحريري غيرَ قادر على أن يحكم»، فسّره البعض على أنه أقوى إشارة سعودية علنية الى أنّ الرياض سحبت اعترافَها بالحريري كزعيم للسنّة في لبنان، وأنها في صدد البحث عن زعامة او زعامات سنّية أُخرى بديلة منه.
غير أنّ مصدراً خليجياً مطّلعاً أكد لـ«الجمهورية» أنّ كلام الجبير لم يأتِ في سياق هذا المعنى، وأنّ ثمّة مَن حاول الاستثمار فيه لإعطائه معنى أنّ السعودية أدارت ظهرها لزعامة الحريري في لبنان. ويوضح أنّ تصريح الجبير تمّ نشره مجتزأً في كثير من وسائل الاعلام في لبنان وخارجه، وربما تمّ تقصّد هذا الأمر. لقد شطبت هذه الوسائل من كلام الجبير العبارة الأخيرة فيه، والتي قال فيها إنّ الحريري لم يعد قادراً على الحكم «كما يشاء».
والعبارة الأخيرة («كما يشاء»)، توضح المضمون الأساس أو الإشارة السياسية الأساس داخل الفكرة السياسية التي أراد الجبير اظهارَها في تصريحه، وهي تأتي في سياق جهد السعودية لدحض كلام معارضيها عن أنها فرضت عليه الاستقالة، وإظهار أنّ استقالته جاءت نتيجة إدراكه أنّ انعكاسات التطوّرات الخارجية على لبنان، جعلته غير قادر على الحكم وفق رؤيته، ووفق ما يشاء.
وبحسب المصدر عينه، فإنّ زعامة الحريري للسنّة في لبنان لا تزال مطلوبة من منظار سعودي وأيضاً خليجي، لأنها تؤمّن حاجة عربية حيوية في لبنان. وهذه الحاجة يمكن تلخيصها بالعناصر التالية:
ـ أولاً، بدايةً، لا يخفي المصدر، أنّ نقاشات جرت داخل السعودية على مدار الفترة الماضية في شأن ضرورة تنويع الزعامة السنّية في لبنان وعدم إبقائها محصورةً بآل الحريري وحدهم.
وسبب هذا الطرح، كما فسّرته المحافل السياسية السعودية التي نادت به، لا يعود لأسباب تتعلّق بالتشكيك بأهلية الحريري أو أهمية زعامته، بل كانت جزءاً من تداعيات الصدمة التي أصابت الرياض نتيجة إغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لقد اعتبرت هذه المحافل أنّ حصرَ الزعامة السنّية في لبنان بزعيم واحد وحصر كل رصيد السعودية في لبنان فيه، يجعل الخصمَ قادراً عندما يريد ضربَ الرياض في لبنان، أن يفعل ذلك عبر توجيه ضربة واحدة لهذا الزعيم، كما حصل، ودائماً بحسب رأيها، خلال اغتيال رفيق الحريري، وكما حصل عندما أزاح «حزب الله» سعد الحريري من رئاسة الحكومة، وفي الحالين تمّ توجيه ضربة للسعودية من لبنان وتمّ زرع «علم النصر» عليها فوق تلة الاشتباك الإقليمي معها في لبنان.
ثمّ حصل في مناسبة أخرى، بحسب المصدر عينه، تطوير لهذه النظرية، وذلك عندما فضّلت السعودية بعد تفاهم الـ«سين ـ سين» أن يصل السنيورة بدلاً من الحريري الى رئاسة الحكومة في الفترة الأولى. كانت الفكرة وراء هذا القرار أنّ فترة السنيورة تتيح للرياض فحصَ نيّات الطرف الأخر في لبنان ومِن ورائه نيّات حليفيه الإقليميّين السوري والإيراني.
وإنه في الاساس يجب إبعاد الحريري عن المسرح اللبناني خلال فترة وجود اشتباك أو شبهة اشتباك إقليمي بين السعودية وإيران ودمشق، لأنّ الأخيرتين ضمن مثل هذه الظروف ستستخدمان ورقة وجود الحريري في رئاسة الحكومة لكي تبتزّا بها الرياض من خلال الضغط السياسي عليه، وذلك نظراً للمكانة الرمزية التي يمثّلها الحريري للبعد الإقليمي للسعودية في المنطقة.
ولا ينطبق الامر ذاته على فؤاد السنيورة أو غيره من الشخصيات السنّية التي لا يمثل تعرّضها للضغوط السياسية، ضغطاً سياسياً ثقيلاً على الرياض، ولا تأثيراً معنوياً موجعاً لها.
ـ ثانياً، قد تفكر الرياض في هذه الفترة التي تشهد نزاعاً حاداً بينها وبين إيران، بإبقاء الحريري خارج صدارة مشهد الساحة اللبنانية، والغرض من ذلك حرمان «حزب الله» وإيران من ممارسة ضغط عليه لإبتزازها عبر فرض مقايضات عليها من نوع تسهيل حكمه مقابل نيل مطالب أُخرى منها أو دفعها الى تخفيض سقف تصعيدها ضدهما. لكنّ وجود هذا الإحتمال لدى الرياض تبدو نسبتُه قليلة في هذه اللحظة، ذلك أنّ زعامة الحريري للسُنّة داخل لبنان مطلوبة عربياً حالياً، لأسباب ليست فقط لبنانية، بل مشرقية ايضاً.
وهناك على هذا الصعيد، وجهة نظر متداوَلة بكثافة داخل كواليس خليجية وعربية، تفيد أنّ الحريري لا يُعتبر زعيماً معتدلاً للسنّة في لبنان فحسب، بل نموذجاً للاعتدال السنّي العربي يجب تقويتُه وتعميمُه على دول المشرق التي تعاني من خلوّها من زعامات سنّية تحظى بميزتين مطلوبتين إقليمياً ودولياً، الأولى أن تكون لها شعبية عريضة تلتفّ حولها، والثانية أن تحظى باعترافٍ دوليٍّ حاسمٍ بإعتدالها.
ففي سوريا لا توجد زعامة سنّية خارج «داعش» و«النصرة» والتنظميات الإسلامية الأخرى التي هناك جدل دولي حول إعتدالها، أما الزعماء السوريون السُنّة الآخرون المعارضون، فيقيمون في فنادق خارج سوريا وهم عديمو التمثيل الشعبي.
والأمر نفسه هو حال الواقع السنّي في العراق أيضاً، فيما وحده الحريري يملك زعامةً شعبيةً واعترافاً دولياً باعتداله في آن معاً. وعليه من الخطأ أن تتخلّى الرياض والخليجيون عن دعم نموذج زعامته او تقويضه او التفكير باستبداله.
ـ ثالثاً، الواقع أنّ كلام الجبير عن أنّ الحريري المدعوم سعودياً لا يمكنه أن يحكم كما يشاء نتيجة التحدّيات الخارجية، بمعنى أخذ لبنان الى اعتدال في مقاربته لأزمات المنطقة ولإثبات صميميّة انتمائه العربي، يترك وراءَه سؤالاً عن بديله السنّي الموقت في الرئاسة الثالثة في لبنان خلال مرحلة الإنعكاسات الحادة للاشتباك الإقليمي السعودي ـ الإيراني على الساحة اللبنانية، وليس عن بديله في زعامة سنّة لبنان.