ليست السياسةُ إدارةَ العلاقات بين السياسيين، بل إدارةُ السياسيين شؤونَ الناس وفي طليعتها قضيةُ البطالة، وبخاصةٍ في صفوف الشبابِ اللبناني حيث سُجِّلت 346 ألفِ حالةِ بطالةٍ في سنتي 2013/14. في دول العالم يتوقّفُ مصيرُ رؤساءَ وحكوماتٍ على معالجةِ هذه القضية. أما في لبنان فهي تفصيلٌ طالما ليس فيها حِصصٌ ومطامرُ وبلوكات.
إنَّ خلقَ فرصِ عملٍ واللامساواةَ والتحولاتِ الاقتصاديةَ، هي القضايا الثلاثُ الكبرى التي تواجِه العالمَ في ربعِ القرن المقبل. وتعكُس هذه الأولوياتُ الاختلالَ الساطع بين ثلاثِ ديمغرافيات: الديمغرافيةُ البشرية، الديمغرافية الاقتصادية وديمغرافيةُ اليدِ العاملة.
فمنذ التسعينات تعتري فَجواتٌ كبيرة التكاملَ بين هذا المثلث المَعني مباشرةً بخلقِ فرصِ العمل بسببِ الاضطرابِ الذي أصاب النظامَ العالمي (الشيوعي، الاشتراكي والرأسمالي)؛ وبلغت ارتداداتُه لبنان الذي يعاني أصلاً من الاختلالِ بين هذه الديمغرافيات.
تحتل البطالةُ الصدارةَ الدولية لأن هناك خوفاً من ألا يكونَ النموُّ موازياً لخلق فرصِ عمل للإنسان بل للآلة. منذ أسابيعَ صدرت دراستان: الأولى عن معهد وارتون Wharton للأعمال التابعِ لجامعة بنسلفانيا الأميركية، والثانيةُ عن جامعة أوكسفورد البريطانية وتكشفان أن كلَّ الدولِ المتطورة ستخسَر في السنين الخمسْ والعشرين المقبلة 47% من الوظائف النخبوية والعمالية، وبخاصة في القطاع الصناعي.
بمعنى آخَر سينتقل العالمُ من البطالةِ المرحلية الناتجة عن أزمةٍ عابرة، إلى البطالةِ البُنيوية الناشئةِ عن حلولِ العقل التكنولوجي واليدِ التكنولوجية مكانَ العقلِ البشري واليدِ العاملة. الإنسانُ يهزُم نفسَه.
السنةُ المنصرمةُ اخترعت الصين الكومبيوتر «صان واي تايهو لايت» Sunway Taihu Light القادرَ على إجراء 93 مليونَ مليارِ عمليةٍ في الثانية، في حين أن العاملَ يحتاج 93 مليونَ مليارِ سنةٍ ليُجريَ القليل من هذه العمليات.
وفي منطقِ التنافسِ الماديّ العالمي وحِيالَ سُرعةِ الاكتشافاتِ وكثافةِ الاستهلاك يَعمُد أصحابُ الصناعات إلى توظيفِ الكومبيوتر والروبو robot بدلَ المفكِّر والمخطِّط والعامل، خصوصاً وأن هذين الكائنين الحديدين لا يقبضُان أجراً ولا يُسجَّلان في الضمانِ الاجتماعي ولا يطلبان تعويضاتٍ ومكافآتٍ ولا يأخذان فرصاً سنوية ولا ينتميان إلى نِقابةٍ ولا يشتركان في تظاهرات.
في لبنان لم نصل إلى مرحلةِ منافسةِ الكومبيوتر والروبو لليدِ العاملةِ اللبنانية (يكفينا السياسيون الروبو)، لكن ما ينافسُها هي اليدُ العاملةُ الأجنبية أكانت فلسطينيةً أم سوريةً أم أسيوية، وأكثريتُها تَعمل بشكل غيرِ شرعي وفي السوق السوداء.
ولم تُسفِر هذه المنافسةُ التي اجتاحت بلادنَا في السنواتِ الأخيرة عن ارتفاعِ البطالةِ فحسِب، بل عن تزايدِ الهِجرة وانتشارِ الجرائم ونموِّ الاحتجاجِ الاجتماعي فالسياسي وتغييرِ هويّة لبنان. ورغم ذلك تنأى الدولةُ عن الحدِّ من المنافسة لعدمِ تقديرها مدى فداحةٍ المشكلة ولأسبابٍ سياسية وطائفية ومذهبية، وتترك وزارةَ العمل وحدَها في الساحة.
الأخطرُ من ذلك، هو أن مسؤوليةَ معالجةِ البطالة عندنا ضائعةٌ بين الدولةِ والقطاع الخاص. لا توجد في الدولة إدارةٌ قادرة على طرح حلّ تنفيذي متكامِل لأن المؤسساتِ المعنيةَ بموضوعِ العمل (وزارة العمل، وزارة الاقتصاد والتجارة، والمؤسسة الوطنية للاستخدام، وغيرُها) لا تملِك لا الهيكليةَ الإدارية ولا المؤهلاتِ البشريةَ ولا القدراتِ الماليةَ ولا الصلاحياتِ الفعليةَ لمعالجةِ الأمر.
فوزارةُ العمل على سبيل المثال، وقد تولّيت مسؤوليتَها نحو ثلاثِ سنوات وحاولتُ أن أخلُقَ من ضعفِها قوة، اسمٌ دونَ مُسمّى: مسؤولياتُها كبيرة وإمكاناتُها ضئيلة. يوجد في وزارة العمل حالياً 114 موظفاً مثبَّتاً من أصل 283 موظفاً لحظَهم المَلاكُ الإداري، أي أن عددَ الشغور 169 وظيفةً ونسبتَه (59.2%).
ومن بين الـ 114 هناك 20% فقط يحمِلون إجازاتٍ جامعيةً وقلّما يعملون في اختصاصهم. فأنّى إذن لهذا الطاقمِ الإداريِّ الصغير، رغم نشاطِه، أن يواجهَ أخطرَ أزمةِ بطالةٍ يتعرّض لها لبنان؟ ورغم أن وزارةَ العمل لا تَخلُق فرصَ عملٍ، بل القطاعُ الخاص، رفعتُ الصوتَ أكثر من مرةٍ لتصحيح هذا الخلَل، فكان الجوابُ في مجلس الوزراء: «النقصُ ليس وَقفاً على وزارة العمل، فكل إداراتِ الدولةِ فيها شغور».
تجاه هذه المعطيات العالمية والمحلية، لا بدّ من مواجهةِ البطالة التي رَست الآنَ على نحو 25%. فعلاوة عن الأزمةِ السياسية ــ الاقتصادية، ارتفعت نسبةُ البطالةِ في لبنان من 8% إلى 11% بين سنتي 2009 و2010 (تاريخُ صدورِ قوانينِ السماحِ بالعمل للفلسطينيين)، وإلى 32% بين سنتي 2011 و2014 (فترةُ النزوح السوري الكثيف)، ثم انخفضت إلى 25% بين سنتي 2014 و2016 نتيجةَ الاستقرار النسبي وبفضلِ الحدِّ من إعطاءِ إجازاتِ عملٍ، والحملاتِ التي شنتها الوزارةُ على العمالةِ الغريبة غير الشرعية، وبروزِ ثقافةِ: «اللبنانيُّ أولاً».
إن كانت هذه التدابيرُ تعالِج البطالةَ المرحلية، فإنها غيرُ كافية للتصدّي للبطالةِ البنيويةِ التي تحتاج إلى قراراتٍ تتخذهُا الدولةُ مجتمعةً لأنها تعني أكثرَ من وزارة ومؤسسة.
ومن أبرزِ القرارات: إعادةُ النظر بالنظامِ التعليمي في المدارسِ والمعاهدِ والجامعات، تعزيزُ التعليم المهنيّ، تحديثُ اليدِ العاملةِ اللبنانية وتأهلُيها لتتكيَّف مع التقنياتِ والواجبات الجديدة، الحدُّ من الهجرةِ المهنيةِ غيرِ المبرَّرة، تحسينُ الأجورِ والتأميناتِ الاجتماعية، وتصويتُ المجلس النيابي على تعديل هيكليةِ وزارة العمل وصلاحياتِها الذي قدَمتُه إلى مجلس الخدمة المدنية ووافق عليه.
أيعقَلُ مثلاً ألا يحقَّ لوزارة العمل وضعُ دراسةٍ حول سوقِ العمل من دون موافقةِ وزارةِ التنمية الإدارية؟ وإذا هذه وافقت، وزارةُ العمل لا تملِك ميزانيةً لإجرائها (نحو مليوني دولار). وإذا توجَّهت الوزارةُ إلى المنظماتِ الدولية بحثاً عن تمويل، كما فعلتُ، تَصطدم بشروطٍ دوليةٍ تتعارض مع المصلحة الوطنية، كتسهيلِ انخراطِ النازحين السوريين في سوقِ العمل اللبناني.a