قد يكون اللقاء الاستثنائي والتاريخي الذي جمع كلاً من رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بعد ثلاثين سنة من الصراعات الدموية بين الجانبين مفاجئاً بتوقيته لكثيرين، إلا أنّه بالتأكيد لم يكن مفاجئاً من حيث المضمون، خصوصًا أنّه أتى ثمرة جهودٍ مضنيةٍ استمرّت على مدى أشهرٍ طويلةٍ تحوّلت خلالها اجتماعات أمين سر التكتل النائب ابراهيم كنعان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات» ملحم رياشي لما يشبه «خلية النحل» لصناعة «إعلان النوايا» وتخطّي كلّ الحواجز والمطبّات التي اصطدم بها هنا وهناك.
منذ اليوم الأول لبدء الحوار العوني – القواتي، حرص الجانبان على التأكيد أنّ لقاء الزعيمين يمكن أن يتمّ في أيّ لحظة، وأنّ لا عقبات في طريقه على الإطلاق، وأنّ جلّ ما في الأمر أنّ كلاً من عون وجعجع يرفضان أن يحصل هذا اللقاء لمجرّد اللقاء، أو لتداول صورة تذكارية تكون في الكثير من الأحيان مضلّلة. من هنا، تأخّر اللقاء إلى أن تمّ الانتهاء من ورقة «إعلان النوايا» بشكلٍ أرضى الجانبَين، حيث خرجت على طريقة البيانات الوزارية اللبنانية الزاخرة بالعبارات الإنشائية التي يوظّفها كلّ فريقٍ لصالحه، علمًا أنّ التمييز بين النَّفَس العوني والقواتي في بنود الوثيقة لم يَبدُ عمليّة معقّدة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
لكن، وعلى الرغم من كلّ المقدّمات التي مهّدت لهذا اللقاء، فإنّ كلّ ذلك لم يمنع من أن ينزل نزول الصاعقة على البعض ممّن تصنّفهم مصادر سياسية مطلعة بـ«المتضرّرين» من التقارب العوني – القواتي، وإن تفاوتت درجة هذا «التضرّر»، علمًا أنّ ما يجمع بينهم لا يعدو كونه «القلق» من أن يأتي هذا التقارب على حسابهم، فيهمّش دورهم بشكلٍ أو بآخر. وتشير المصادر إلى أنّ مختلف القوى المسيحية، ولا سيما منها «الكتائب» و«المردة»، إضافة إلى من يسمّون أنفسهم بـ«المستقلّين»، لم ينظروا بعين الرضى لهذا اللقاء ولتوصيفه على أنّه لقاء قمّة، الأمر الذي اعتبروا فيه تجاوزاً كبيراً لهم، واختزالاً للساحة المسيحية بشخصي عون وجعجع دون سواهما. وتلفت إلى أنّ هذا «الامتعاض» ليس وليد لقاء القمّة الذي عُقِد، بل هو يعود إلى أسابيع خَلَت، كانت خلالها حركة الموفدين من الرابية إلى معراب وبالعكس أكثر من نشطة، ولم ينفع في إخفائه الكلام المنمّق عن أنّ أيّ تقاربٍ بين اللبنانيين هو محلّ ترحيبٍ، خصوصًا أنّ «الكتائبيين» لم يتردّدوا في الإعراب عن «سخطهم» من هذا التقارب غير مرّة بوصفه «ضحكاً على الذقون»، ولجأوا على طريقة «النكاية» لتحالفٍ لم يكن أبدًا «ضربة معلم»، على حدّ تعبير المصادر، مع رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال سليمان.
وإذا كانت مصادر «المردة» ترفض تأكيد أو نفي المعلومات عن «الامتعاض» من استثناء التيار بلقاء عون وجعجع، مشدّدة على أنّ التواصل والتنسيق مع «الجنرال» مستمران، وأنّ شيئاً لن يتغيّر بنتيجة المستجدّات، فإنّ مصادر «الكتائب» ترفض في المقابل تضخيمه، باعتبار أنّ الحوار بين الشركاء في الوطن يجب أن يكون هو الأساس، وتقول: «نحن لا نعتبر أنّنا استثنينا من هذا الحوار، لأننا أصلاً لم نقاطع يومًا أيّ فريقٍ في الداخل، ونرى أنّنا في حالة حوارٍ دائمٍ مع جميع الأفرقاء من دون استثناء، بدليل حوارنا الدوري مع حزب الله نفسه رغم اختلافنا في السياسة»، وتضيف: «حزب الكتائب لا يخاف على دوره، بل على العكس من ذلك، ها هو اليوم يجدّد شبابه ويستعدّ لربيعه الذي سيكرّس فيه دوره المحوري، فهو حزبٌ تاريخيٌ عريق لم ولن يخرج قيد أنملة عن مبادئه وثوابته».
أما «التحفّظ» الذي تبديه المصادر «الكتائبية» فهو على ما يمكن توقعه من حوارٍ أخذ كلّ ما أخذه من وقتٍ وجهدٍ لمجرّد إعلان نوايا، وتقول: «إذا كان صفاء النوايا وحده تطلّب كلّ ما تطلبه من عناءٍ، لدرجة جعلتنا نشعر أنّ الزعيمين يحلان أزمة الشرق الأوسط، فمن الأكيد أنّ أيّ رهانٍ على تحقيق هذا الحوار لخروقٍ جدية هو أقرب إلى الوهم، في وقتٍ بقيت الملفات الخلافية الحقيقية وأولها الاستحقاق الرئاسي بعيدة عن جدول أعمال الحوار، وكأنّها لا تعنيه من قريب أو من بعيد، في حين أنّها عملياً تشكّل الامتحان الحقيقي لهذا الحوار في نهاية المطاف».
على هذا «المنطق»، تردّ مصادر مواكبة للحوار، مشيرة إلى أنّ الهواجس التي يطرحها البعض لا أساس لها، فالحوار لا يسعى لتشكيل اصطفافٍ جديدٍ أو تحالفٍ موضعيٍ في مكانٍ ما، كما أنّ أحداً لا يستطيع أن يلغي أحداً، وتلفت إلى أنّ المطلوب أن يعمل الجميع على تشجيع ثقافة الحوار لما فيها من مصلحةٍ وخيرٍ للبلد، بدل محاولة ضرب الحوار في مهده، والتخفيف من وهجه، عبر تعميم ثقافة الإحباط والاستسلام، مشدّدة على أنّ أيّ إنجازٍ يحقّقه الحوار، إذا ما تمّ، سواء على صعيد الاستحقاق الرئاسي أو غيره، سيكون في النهاية لمصلحة الجميع، وسيستفيد منه كلّ الأفرقاء من دون استثناء.
عمومًا، ترى المصادر السياسية أنّ القوى المسيحية ليست وحدها المتضرّرة من التقارب العوني – القواتي، وإن أتت على رأس «لائحة المتضرّرين»، وتضيف في هذا السياق إلى اللائحة الحلفاء الآخرين لكلّ من «الحكيم» و«الجنرال»، وفي مقدّمهم «تيار المستقبل»، الذي تشير المصادر إلى أنّ لديه «نقزة» من أيّ تقاربٍ مسيحي – مسيحي، إذ يعتبر أنّ تفاهم المسيحيين فيما بينهم سيشكّل «قوة» قد لا تكون لصالحه، وتجربة «القانون الأرثوذكسي» الذي تفاهم عليه هؤلاء قبل أن يعود «القواتيون» وينقلبوا عليه ماثلة في الأذهان.
وبحسب المصادر، فإنّ الأمر نفسه ينطبق على رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط، الذي يخشى أن تذهب «بيضة القبان» التي يشكّلها مع مثل هذا التقارب، لأنّه قادرٌ على أن يطيح بجزءٍ كبيرٍ من القوة «المرجّحة» التي يمثلها داخل البرلمان، وهو القادر كما يعلم القاصي والداني على ترجيح كفّة فريقٍ على آخر. أما «حزب الله»، فترى المصادر أنّ «القلق» من أن يجرّ جعجع عون إلى دفّته في مكانٍ ما لا يسيطر على الحزب، الواثق بثبات «حليفه» على خياراته الاستراتيجية، وهو ما تؤكده «التجربة»، إذ إنّ «الجنرال» لم يرضخ لـ«المغريات» الكثيرة التي قُدّمت له لـ«التضحية» بتفاهمه مع المقاومة، وبقي ثابتاً في موقعه.
هي عيّنة من فيض «متضرّرين» كُثُر من شأن تعدادهم تحميل صفحاتٍ عديدة ولوائح متنوّعة لشخصيات بعضها يقلق على دوره، وبعضها الآخر يخشى تداعياتٍ هنا أو هناك. من هنا، فإنّ على المتحاورين أن يستعجلوا تحقيق إنجازٍ فعليٍ حقيقي بعيدٍ عن النوايا الصافية فقط، لأنّ من ينتظرونهم «على المفرق» أكثر من أن يعدّوا ويحصوا كما بات معلوماً!