صحيح ان زيارة قائد الجيش العماد جوزاف عون الى الاردن لم تكن مفاجئة للعالمين بملف العلاقات والتعاون بين البلدين خصوصا على الصعيد العسكري والامني، الا انها بالتاكيد فرضتها ظروف موضوعية تحكمت في توقيتها ومضمونها، ما اكسبها اهمية ابعدتها عن ان تكون بروتوكولية حتى في الشكل والمدة.
بالتأكيد عند الحديث عن التعاون اللبناني-الاردني العسكري على الباحث ان يفتش عن اليد الخفية الاميركية، التي اعطت الضوء الاخضر للاندفاعة الاردنية، خصوصا ان بروتوكولات واتفاقيات التسليح الاميركية مع اي طرف تفترض موافقة واشنطن قبل نقل اي سلاح او معدات الى طرف ثالث. عليه فقد وجدت الولايات المتحدة الاميركية ضالتها في الاردن منذ لحظة قررت مد يد العون للبنان مع بداية التسعينات.
فالعلاقات التي تربط عمان بواشنطن كانت كفيلة بضبط عملية «توريد» السلاح الاميركي وفقا للخطة الاميركية التي وضعها البنتاغون عام 1991 لدعم الجيش اللبناني ، واعادة تفعيل جزء من برامج التسليح والتدريب والتي كانت توقفت منذ عام 1985، ضمن ضوابط الاتفاق الذي جعل من لبنان «محمية» سورية، اذ قامت واشنطن ببيع لبنان شاحنات وملالات ام 113 وآليات مدولبة وعدد من الزوارق الخفيفة ،من مخلفات الجيش الاميركي المنسحب من المانيا، باسعار رمزية،وكذلك طوافات «اي.يو.اتش1» جرى تجديدها، ووصلت اسرابها الى لبنان يومها عبر الاردن بقيادة طيارين لبنانيين،فيما ترك للجيش السوري تزويد نظيره اللبناني بدبابات «ت54 وت55» وراجمات صواريخ غراد ، وبعض مدافع الميدان،في مقابل فتح خجول للكليات العسكرية الاميركية والاوروبية امام الضباط اللبنانيين لاجراء دورات تدريب، في الوقت الذي بلغت نسبة المتابعين لدورات في سوريا اكثر من 80%.
امام هذا الواقع قررت يومها القيادة العسكرية الاميركية التعويض عن دورات التدريب على اراضيها، بالطلب الى الدول العربية برفع نسبة عدد العسكريين اللبنانيين الملتحقين بمعاهدها العسكرية، ومن بين ابرز تلك الدول الاردن،اولا لقربه من لبنان ولسبب اهم يعود الى معرفة الدولة الاردنية الجيدة بالاوضاع اللبنانية، فضلا عن المستوى العالي الذي تتمتع به معاهدها وكلياتها العسكرية.
استمرت الامور على هذا الشكل لسنوات، قبل ان تعرض الاردن على واشنطن تحويل عدد من دبابات ال ام 60 التي اخرجت من الخدمة في تشكيلات الجيش الاردني الى بيروت، بعدما كان تناول هذا الموضوع فريق من الضباط اللبنانيين خلال زيارته الى المملكة،حيث علم يومذاك ان تلك الدبابات بحاجة الى بعض الصيانة.غير ان الموافقة الاميركية اصطدمت بفيتو دولة اقليمية يومها ضغطت باتجاه وقف الحماسة اللبنانية نحو اتمام الصفقة.
يقول العارفون بخفايا الامور في تلك الفترة ان الهدف الاميركي كان الحفاظ على هيكل الجيش اللبناني وترسانته الاميركية من السلاح في حدها الادنى وكذلك جهوزيته القتالية، الى ان تحين الساعة، ذلك ان تجربة ال 1983 وسرعة استيعاب العسكريين اللبنانيين للتدريبات يومذاك، ما سمح ببناء جيش في مهلة قياسية بلغت ستة اشهر، كانت الاساس في بناء المشروع الاميركي المستقبلي تجاه لبنان.
مع خروج الجيش السوري من لبنان ، اعاد البنتاغون تفعيل برامجه العسكرية في ما خص لبنان، انطلاقا من مسلمتين، الدور الجديد لجيش اللبناني الذي اثبت حياديته خلال فترة شباط 2004 حتى حزيران، والثانية ضرورة ايجاد قوة عسكرية قادرة على حماية الشرعية الجديدة.يومذاك لجات واشنطن من جديد الى الوكيل العربي، السعودي والخليجي هذه المرة، والذي اكتفى بتقديم مساعدات لوجستية وآليات نقل من شاحنات و«هامفي» و«لاند روفر»، لترتفع بعدها خلال معركة البارد، التي كشفت الثغرات الكبيرة في تسليح الجيش، المساعدات لتشمل قذائف مدفعية ومستلزمات فردية للجنود من دروع وخوذ وغيرها،كما قامت الامارات العربية المتحدة بتسليم لبنان سربي طوافات بوما وغازيل .
انتهت معركة نهر البارد بقرار جدي لتسليح الجيش، في اطار خطة جديدة بنيت الى ما خلصت اليه نتائج معركة البارد،فكان تفعيل لعمليات التدريب ودخول مباشر للاميركيين على الخط عبر مئات الخبراء ومجموعات التدريب التي باشرت تدريب الوحدات اللبنانية،اضافة الى تسريع المفاوضات حول حاجات الجيش من السلاح في اطار خطة خمسية وضعتها قيادة الجيش يومها، واجهت عقبات كثيرة ابرزها التمويل والفيتو الاسرائيلي .
هكذا بدأت موجات السلاح الاميركي «النوعي» تصل الى لبنان،بعدما نجح الجيش اللبناني في اختبارين اساسيين، الوقوف على الحياد خلال الازمات الداخلية التي عصفت بالبلاد، من جهة، وانصاره على الارهاب في مخيم نهر البارد،ما اظهر للاميركيين بما لا يقبل الشك ان الاستثمار الامني والعسكري في لبنان ضرورة اساسية.
ومع اندلاع الحرب السورية وتمدد الجماعات الارهابية، نجح الجيش اللبناني في دوره في حماية لبنان في الداخل وعلى الحدود مسجلا الانجازات النوعية، التي حازت تقدير واهتمام الاميركيين والاوروبيين، فكان القرار الحازم بدعم لبنان، والذي استنكفت عنه السعودية وبعض دول الخليج نتيجة الظروف السياسية وما انتجته عملية السابع من ايار، لتتحول الانظار الى الاردن من جديد.
الاردن الذي كان باشر خطة اصلاحية لتحديث جيشه وتسليحه، عبر استبدال تدريجي للسلاح المستخدم بآخر اكثر حداثة، ما وجد فيه الاميركيون ضالتهم، خصوصا ان بعض اصناف السلاح الذي كان يرغب لبنان بالحصول عليها لم تكن متوافرة في المخازن الاميركية، فقدمت المملكة بموافقة اميركية عدد من الملالات فضلا عن مدافع 155 محمولة على مجنزرات، فيما اعيد احياء مشروع تجهيز الجيش بدبابات ام 60 بعد اجراء الاصلاحات اللازمة عليه،خصوصا ان لبنان كان استلم خلال السنوات الخمس الماضية عشر دبابات منها.
وتكشف المعلومات في هذا الاطار الى ان الاميركيين يعتبرون الاردن قاعدة خلفية اساسية «لاستثماراتهم» العسكرية في لبنان، لجهة تواجد مخازنهم فيها، وقرب تلك المخازن من لبنان، وهو ما اثبت نجاحه خلال معركة فجر الجرود، فضلا عن القرار الاميركي بمشاركة الجيش اللبناني في تدريبات «الاسد المتاهب» السنوية والتي تضم عددا كبيرا من دول التحالف.
هكذا اذا محصنا بانتصار فجر الجرود ودحر الارهاب زار العماد جوزاف عون المملكة الاردنية الهاشمية، حيث لقي حفاوة استثنائية، وسمع اشادة بدور الجيش ،ليعود بقرار واضح بتفعيل المساعدات والدعم على كافة المستويات، بعدما اثبت جدارته واستحقاقه لذلك. كل ذلك عشية زيارته الثانية المرتقبة الى واشنطن لمتابعة بحث سبل تفعيل التعاون العسكري بين البلدين، التي لن تتوقف بحسب الاميركيين قبل تحقيق هدف بناء جيش قوي قادر على حماية وصيانة استقلال لبنان، وما وصول طائرتي السوبر توكانو الا دليل جديد على ان القطار وضع على السكة واحدا لن يستطيع ايقافه.