في اللحظات المفصلية من تاريخ الشرق الأوسط ولبنان، هناك ترقُّبٌ للرئيس الآتي إلى البيت الأبيض، مطلع 2017. وقد أثار اختيارُ دونالد ترامب شخصية لبنانية، هي الدكتور وليد فارس، مستشاراً لشؤون السياسة الخارجية، أسئلة في بعض الأوساط اللبنانية: إذا عاد الجمهوريون إلى الحكم، مع ترامب، هل يستعيدون المسار الذي سلكه جورج بوش الإبن في الشرق الأوسط؟ وأيّ فرص للبنان ليخرج من جموده القاتل؟
اللبنانيون الذين يعيشون في الولايات المتحدة، والذين مارسوا أدواراً فاعلة في توجّهات السياسة الخارجية الأميركية، خلال عهودٍ متتالية، يعتقدون أنّ هناك في لبنان صورة غير دقيقة لما قامت به الإدارة الأميركية في الملف اللبناني. وداعمو الحزب الجمهوري يرون ضرورة تصحيح الصورة في شأن ما فعله بوش الإبن للبنان، خلال ولايته.
فالشائعُ في بعض الأوساط اللبنانية، ولاسيما تلك المؤيّدة لـ14 آذار، أنّ بوش ساعد اللبنانيين على إطلاق «ثورة الأرز» وخروج القوات السورية، لكنه تركهم يقلِّعون شوكهم بأيديهم، مع معرفته الكاملة بأنهم عاجزون عن مواجهة الضغوط وحدهم. وهم يقولون: «لقد أوصَلَنا بوش إلى منتصف البئر وقَطعَ الحبل فينا»!
هؤلاء المغتربون اللبنانيون، الذين واكبوا نهجَ بوش في الشرق الأوسط، وكانوا جزءاً من القوى الضاغطة لصناعة القرار الخارجي في خلال عهده، ينظرون إلى ما فعله بوش من زاويةٍ مختلفة. ومن هؤلاء المهندس توم حرب الذي يقود اليوم التحالف الأميركي- الشرق أوسطي لدعم دونالد ترامب.
يقول حرب لـ«الجمهورية»: لم يُخطئ بوش مع لبنان. فهو صاحب الفضل في ولادة القرار 1559. والدكتور وليد فارس كان من مهندسيه. لكنّ اللبنانيين لم يُحسنوا استثمارَ الظروف التي أُتيحت لهم عام 2005.
وفي حرب تموز 2006، كان بوش يعمل لوضع القرار 1701 تحت الفصل السابع. وطالب مندوب واشنطن في الأمم المتحدة جون بولتون بإقناع الحكومة اللبنانية بقبول ذلك. لكنّ الرئيس فؤاد السنيورة تمسَّك بورقة النقاط السبع، المعروفة النتائج.
وفي عام 2008، عندما دخل «حزب الله» إلى بيروت، إقترحت إدارة بوش أن يستفيد الجيش اللبناني من القرار 1701، الذي ينصّ على أنّ للقوات الدولية صلاحية التوسّع في نطاق مهامها لتشمل مناطق حسّاسة، ولمساعدة الجيش الذي كان يمكن أن يستعينَ بدعم القوات البحرية. لكنّ لبنان رفض ذلك. ويبدو أنّ الهدف كان ترتيب اتفاق الدوحة.
ولذلك، يضيف، ليس مناسباً الاستسهال بتوجيه اللوم إلى إدارة بوش. واليوم، لنفترض أنّ ترامب وصل إلى البيت الأبيض، وكان في عِداد فريقه وليد فارس والناشطون من أجل استقلال لبنان، وكانت لدى ترامب الإرادة لتنفيذ مبادرة معيّنة تجاه لبنان، فمع مَن في لبنان يجب أن نعمل لتحقيق هذا الهدف؟
هناك تغييراتٌ يمكن أن تطرأ على السياسة الأميركية إزاءَ لبنان، يضيف حرب، ولكن، علينا أن نحدِّد أهدافنا نحن اللبنانيين، وقبل أن نطلب من الآخرين: ماذا نريد من أميركا؟
ويشرح الدكتور وليد فارس لـ«الجمهورية» ما يمكن أن تكون عليه سياسة الإدارة الأميركية، إذا وصل ترامب إلى البيت الأبيض: في اعتقادنا، ستُراجع هذه الإدارة كلَّ الملفات في الشرق الأوسط وتقوم بعملية تغيير أساسية، تماماً كما فعل أوباما عندما جاء إلى البيت الأبيض عام 2009.
وفي ما يتعلق بلبنان، هناك مبادئ أساسية واضحة ستدعمها إدارة ترامب. لكنّ التفاصيل والهيكلية وآلية التنفيذ وطبيعة التغييرات تأخذ في الاعتبار آراء اللبنانيين كمجموعاتٍ وشخصياتٍ سياسية. وهذا لا يمكن أن يتبلور إلّا بعد الانتهاء من الانتخابات.
فالمبادئ واضحة، يضيف فارس، وركائزها الآتية:
– أولاً: إلتزام القرارات الدولية المتعلقة بلبنان، وفي مقدمها القرار 1559 بما طبِّق وما لم يطبَّق من فقرات، كخروج القوى الغريبة المسلحة من الأراضي اللبنانية، مع ما تبقى من تنظيمات غريبة أو وجود غريب، سواءٌ كان تحت عنوان الإرهاب أو القوى الموجودة بقوة امتلاكها السلاح، وتجريد الميليشيات من سلاحها على كلّ الأراضي اللبنانية، وتحويلها أحزاباً سياسية.
– ثانياً: مساعدة اللبنانيين على مواجهة الأخطار الاقتصادية والاجتماعية، أي الحال المرعيّة في لبنان، وهي صعبة جداً. وستكون هناك سياسة خاصة لمواجهة هذه المشكلات، ولكن بعد أن يتمّ تطبيق المبدأ الأول، أي التسوية الأمنية القاضية بإخلاء لبنان من أيّ عامل مسلّح، ما عدا الجيش اللبناني وقوى الأمن الشرعية.
– ثالثاً: مساعدة الأطراف اللبنانية، بعد إجلاء القوى الغريبة ونزع السلاح، على إقامة حوارٍ حقيقي يجب أن يعبّر فعلاً عن آراء اللبنانيين، أكانوا مجموعات أو شخصيات سياسية. وهذا الحوار ربما يكون الأوّل من نوعه منذ 1943، لأنّ «اتفاق الطائف» الذي أنجِز لوضع حدٍّ للحرب اللبنانية تمّ إبرامُه فيما الحرب دائرة، ولأنّ ما جرى تنفيذُه كان بقوة السلاح.
وفي المحصلة، يقول فارس، في حال فوز ترامب بالرئاسة، لن تتدخل إدارته عملياً في محتوى المفاوضات اللبنانية المستقبَلية، لكنها ستساعد مع شركائها الأوروبيين والعرب على إيجاد مناخ حُرٍّ في لبنان، لينطلق حوارٌ حقيقي يُنتج الصيغة السياسية التي يريدها اللبنانيون.
ويلفت حرب إلى أنّ ترامب هو أوّل مرشح للرئاسة الأميركية يتحدث عن خطر إيران في لبنان، من خلال «حزب الله». وهو معروفٌ بانتقاده الاتفاق حول الملف النووي إنطلاقاً من اعتباراتٍ عدة.
فالاتفاق، في رأيه، يخلق تسابقاً نووياً في الشرق الأوسط قوامه دول ترعى الإرهاب وتقوّيه وتتسبب في خلق الفتن في منطقتي المتوسط والبحر الأحمر. والاتفاق أعطى إيران هامشَ 150 مليار دولار، ما يقوّي نفوذَ الملالي والإسلاميين فيها، ويمنحهم مهلة عشر سنوات وقواعد لإطلاق الصواريخ. وكلّ ذلك، فيما إيران تستطيع شراءَ السلاح النووي في أيّ لحظة.
فهذا الاتفاق كان لمصلحة إيران تماماً، ولم يستفد منه الغرب بشيء. وهي في ظلّه ستتمكن من تقديم دعمٍ أكبر للإرهاب، ما يشكّل خطراً على العالم. ومن النماذج مجموعاتها التي ترعاها في دول أميركا اللاتينية.
وأما في سوريا، يوضح حرب، فالحلّ يكمن في دخول جيوش عربية برّاً إلى سوريا، بدعم من القوى الدولية، لضرب «داعش». وهذا السيناريو ممكنٌ أيضاً في العراق، وهو يكفل تفكيكَ «داعش». وفي هذه الحال، يتحمَّل العرب أكلافَ التدخّل لا سواهم.
عن موقف ترامب من الإسلام، يقول حرب: هو لم يعبّر عن كراهية للإسلام، بل قال: نريد أن نعرف لماذا يكرهُنا المسلمون؟ ولكنه طبعاً ضدّ الأصولية الإسلامية. ويقول: علينا أن نعرف مكامن الخلل. فالتطرّف خطِر، وهو يتسبَّب اليوم في تفكيك الدول العربية. أما في ملف اللاجئين فهو يحرص على حلّ جذور أزمتهم. وفي أيّ حال، يريد التثبُّت من الذين يدخلون ويخرجون، ومعرفة ما إذا كان لجوؤهم موقَّتاً أو دائماً.
والمهم هو الاتجاه إلى إقامة أنظمة حُكمٍ مستقرّة في الشرق الأوسط، يقول حرب، ونحن نعتقد أنّ الفدراليات التي تقوم في الولايات المتحدة وفرنسا والبرازيل وسويسرا وسواها، والتي ترتكز إلى الوحداتِ الإدارية المحلية كالبلديات، كفيلةٌ بمنح المواطنين القدرة الإدارية والسياسية على انتخاب ممثليهم، بمعزل عن السلطة المركزية. ويصعب على العقل الغربي أن يَفهم لماذا يرفض الشرقيون هذا النظام الفدرالي الناجح جداً عندهم.
هذا السؤال الذي يطرحه توم حرب قد يكون الجواب عنه هو الآتي: لم يَصِل الشرقيون إلى ثقافة القبول بالآخر والاعتراف به، وإن كان مختلفاً. فالجميع في الشرق يريد تغييرَ الجميع، ولو بالعنف، ليصبح مثله. وهذا هو سببُ رفض الشرقيين إجمالاً للخيارات الحرَّة.
فالاعترافُ بالاختلاف هو أساسُ العدالة والديموقراطية. ولذلك، يغرق الشرقيون في دمائهم على أمل أن يتمكَّنوا من تغيير الآخرين وجَعْلِهم على صورتهم ومثالهم.
هل ينجو لبنان من هذه الكأس المرّة ويقتنع جميع أبنائه بحقِّ الآخرين في أن يكونوا هم أنفسهم، أم إنهم يفضِّلون دفعَ لبنان إلى أتون النار المندلعة في الشرق الأوسط؟