ما الذي ينقص الحرب الأهلية لتنفجر من جديد؟ … سؤال يتجدّد منذ سنوات، في كل أزمة سياسية تضرب البلاد، وتذهب معها الرهانات إلى أبعد النقاط المتاخمة لحدود الجحيم.
هذا ما حصل بالفعل يوم السبت الماضي في لبنان، في لحظة مفصلية، تقف فيها البلاد متأرجحة بين قوة دفع هائلة نحو الانهيار الكبير، وبين قوة كبح مكبّلة بمغامرات الداخل ومؤامرات الخارج.
لا يمكن فصل مغامرة «6 حزيران» عن هذا السياق، فكل حيثيات هذا اليوم – وهو للمفارقة يحمل بعداً رمزياً للغاية، إذا ما استذكر أحدٌ في لبنان أنّه اليوم الذي شهد بداية الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 – كانت تشي بأنّ المراد مما جرى السبت، هو احراق البلد واعدامه عبر ادخاله في مسار «الفوضى التدميرية»، التي باتت نهجاً مكشوفاً في الكثير من بؤر الاشتباك الاقليمي والدولي في العالم.
من دعا إلى التظاهر؟ لماذا تعدّدت الشعارات؟ ولماذا انقلب المشهد من «مطالب مشروعة» الى «اعمال شغب» إلى نذر فتنة طائفية؟ كلها أسئلة متشعبة ومعقّدة قد لا تجد أجوبة شاملة، ولكن كلاً منها تتناسل منه خيوط يكفي تتبعها للقول بأنّ لبنان قد دخل بالفعل في مرحلة بالغة الخطورة، وقد تكون أحداث السادس من حزيران محطتها الأولى.
كان واضحاً أنّ أجندات «6 حزيران» ليست بريئة؛ من الجائز تفهّم نزول فئة من المتظاهرين تحت شعارات مطلبية اقتصادية – اجتماعية لا جدال فيها، امتداداً للحراك الشعبي الذي لا يختلف اثنان – ولو في الظاهر – على أحقية مطالبه. ومن الجائز أيضاً تفهّم نزول فئة ثانية من المتظاهرين تحت شعارات سياسية، من قبيل المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة، طالما أنّ الأمر يندرج في إطار التغيير الديموقراطي. ولكن من غير الممكن تفهّم كيف خاطر هؤلاء بالنزول مع فئة ثالثة حملت واحداً من أكثر الشعارات حساسية في الداخل والخارج، وهو شعار تطبيق القرار 1559 – أو بالأصح إعادة استجلاب الخارج لتغيير المعادلة الداخلية بالدم!
يحتار المرء في ما إذا كانت الفئتان الأولى والثانية قد تحرّكت بنزعة «طوباوية»، كرّسها شعار رفعه احدهم «اترك موضوع السلاح جانباً وتعال نتكلم عن الفقر»، أم أنّ تلك»الطوباوية» هي غطاء لمشروع الفئة الثالثة، التي كانت أكثر وضوحاً في ذاك السبت المشؤوم، إن لجهة شعاراتها، أو لجهة حركيّتها، التي جعلت حتى بعض المغالين في معارضة «حزب الله» من «ثوار» ساحة الشهداء، يقرّون بأنّ ما جرى عند جسر الرينغ كان «استفزازاً غير مبرر».
هي الحركية المنظمة ذاتها، التي بدت منظّمة بشكل دقيق من ألفها إلى يائها، وبشواهد كثيرة، تجعل ما حصل السبت، يتجاوز مجرّد فعل وردّ فعل من قِبل «عناصر غير منضبطة».
لقد تبدّى ذلك في التحشيد السابق ليوم «6 حزيران»، وما تضمنه من نزعات عدائية ضد الجميع، ضمن خطاب يتجاوز حتى شعار «كلّن يعني كلّن»، الذي باتت مشمولة به حتى القوى الأساسية في الحراك الشعبي، بما في ذلك اسامة سعد وحنا غريب وشربل نحاس وبولا يعقوبيان وسامي الجميل، بحسب الدعوات التي انتشرت في الأيام القليلة التي سبقت التحرك.
هو التحشيد المنظّم نفسه الذي تبدّت ملامحه في الحافلات التي تقاطرت إلى وسط بيروت، والمحمّلة بكل صنوف «الزعران»، الذين لم يسلم منهم حتى الصحافيون – بمن فيهم المدافعون عن «الحراك» والحاملون للواء «الثورة» – والذين لم يكن أحد من المراقبين ليجد صعوبة في رصد أنّ ثمة من يحرّكهم وفق المتغيّرات على الأرض، وهو ما كان واضحاً في افتعال الاشتباكات على «خط تماس» بين ساحة الشهداء والخندق الغميق عند «جسر الرينغ»، التي نجح الجيش اللبناني في احتوائها سريعاً، والانتقال بعد ذلك إلى افتعال المواجهات عند خط التماس بين «الثورة» و»النظام» في محيط مجلس النواب، والتي نجحت القوى الأمنية في احباطها بسرعة لافتة، وبعدها الانتقال إلى «خطوط التماس» التقليدية بين «شرقية» و»غربية» (الشياح – عين الرمانة) أو بين «الشيعة» و»السنّة» (الطريق الجديدة – بربور).
وبرغم عودة الهدوء الحذر، إلّا أنّ ثمة ما يستدعي توقّع أنّ ما قبل «6 حزيران» لن يكون كما بعده، فالأحداث التي حصلت فيه حملت رسائل متعدّدة الاتجاهات:
– الرسالة الأولى، موجّهة إلى الحراك الشعبي نفسه – الذي يمكن اعتباره اكبر متضرّر مما جرى – بأنّ الطريق إلى الجحيم معبّدة بالنوايا الحسنة والسيئة في آنٍ واحد.
– الرسالة الثانية، إنّ «6 حزيران» هو إيذان بميلاد حالة أكثر تطرّفاً في الشارع السنّي – أشرف ريفي وبهاء الحريري – من شأنها أن تحمل انقلاباً على قواعد الاشتباك السياسي المرسومة بدقّة بين الشارع السنّي الأكثر اتزاناً – سعد الحريري – وبين الشوارع الأخرى، وأنّ هذا الشارع المستجد قادرٌ على المبادرة إلى فعل يجرّ ردّ فعل مضاد من شارع ضدّ آخر، سواء أكانت هذه الثنائية سنّية – شيعية أو شيعية – مسيحية أو سنّية – مسيحية، وهو ما يخدم أجندات خارجها لم تعد ادواتها الداخلية مخفية على أحد.
– اما الرسالة الثالثة، وهي الرسالة التي تفسّر الاستنفار في البيئة الحاضنة للمقاومة، فهي موجّهة الى «حزب الله» و»العهد» معاً، ومذيّلة بتوقيع خارجي واضح، مفادها أنّ لبنان دخل في مرحلة المقايضة بين الاستقرار الامني ونزع سلاح المقاومة، وأنّ ما لا يمكن فرضه بالاقتصاد قد يكون من الممكن فرضه بلعبة الأمن.
هذه المعادلة، ثمة من حذّر منها، منذ لحظة دخول لبنان عتبة الانهيار الاقتصادي قبل أسابيع، وخصوصاً انّه مع بدء مفاوضاته وصندوق النقد الدولي، كان مركز بحثي خارجي يتناول السيناريوهات المستقبلية للبنان؛ العنوان الرئيسي كان «آثار ذهاب لبنان إلى صندوق النقد»، وخلص إلى أنّ الصندوق، بحكم تركيبته السياسية، لا يمكن أن يوافق على خطة انقاذ للاقتصاد اللبناني دونما شروط سياسية لا يمكن للمنظومة اللبنانية تحمّلها، وفي القلب منها تحقيق الهدف الأميركي بنزع سلاح «حزب الله». ما يعني أنّ لبنان أمام خيار من اثنين: إما القبول بهذه الفاتورة، وبالتالي الذهاب إلى حرب أهلية، وإما رفضها، وبالتالي الذهاب نحو انهيار اقتصادي يستتبع اعادة تشكيل المنظومة التي قامت عليها البلاد منذ مئة عام.
اذا ما صحّت هذه الخلاصة – وهي الأقرب إلى المنطق إذا ما نظر إليها المرء بعين محايدة – لا يمكن استبعاد أن يدخل «6 حزيران» تاريخ لبنان الحديث، كـ»بروفة» لمشروع فتنة، بعض اهدافها واضحة وبعضها الآخر ما زال معتّماً عليه داخل الغرف السوداء!
وإن صحّت فرضيّة «البروفة»، فهذا معناه ان هناك ارادة – محلية او خارجية لا فرق – تحاول أن تشعل النار لإحراق البلد. واللبنانيون بكل طوائفهم ومذاهبهم وتلاوينهم السياسية وغير السياسية سيكونون هم وحدهم وقودها رغماً عنهم.