خُرِبَت بيوت الناس. خُرِبَت أرزاق الناس ولقمة الناس ومصالحهم. خُرِبَت الدولة اللبنانيَّة. خرب الدستور. خربت المؤسسات والدوائر من كبرى وصغرى وبَيْن بَيْن. خربت المواسم بكل أنواعها. خربت الجيوب. خربت العقول، خربت الآمال. خرب الاستقلال التام والناجز. خربت السيادة. خرب لبنان الواحد الى الأبد. خرب الاقتصاد والازدهار. خربت السياحة والاصطياف وولَّت البحبوحة.
خرب كل شيء، كل ما كان يمتاز به لبنان، والى غير رجعة. خرب الماضي والحاضر والمستقبل.
خرب؟ بل خرّبوه عن سابق تصوّر وتصميم. خرَّبه المحاضرون في العفاف والمزايدون في الوطنيَّة.
خرَّبوه لأنه كان متميِّزاً بكل ما فيه عن كلّ الآخرين. بجغرافيته. بموقعه. بينابيعه وحقوله وبحره. بتركيبته الطوائفية والنادرة. بصيغته التي لا شبيه لها. بنظامه الديموقراطي البرلماني الذي كانت ديموقراطيّات أوروبا العريقة معجبة به، وكان سفراء هذه الديموقراطيات في لبنان يتسابقون الى حجز المقاعد في قاعة جلسات مجلس النواب لحضور الجلسات والمناقشات…
لكنَّهم خرَّبوه انتقاماً من هذه الظاهرة المركَّبة من ثماني عشرة طائفة، والمتوافقة على العيش المشترك والمصير الواحد، في لبنان الموحَّد الذي لا تكتب له الحياة اذا ما تعرَّض لأية تغييرات في الصيغة أو التركيبة.
خرّبوا عاصمة العرب وساحرة الدنيا بيروت. غاروا من حضورها النادر في رحابته، وتنوّعه، ونجاحه، وتفوّقه في كل الميادين والحقول: من الابداع في مجالات الأدب والفن والمسرح والسينما، الى الصحافة والطباعة والانتشار…
خرَّبوا كل هذه الكنوز. كل هذه الثروات. كل هذا التألُّق والتفوُّق. كل هذا النجاح والتميّز. وما زالوا يصرّون على تخريب ما يمكن وصفه ببقايا من بقاياه.
انهم يواصلون الزحف في سبيل قطع ما تبقّى من الشرايين في جسد هذا اللبنان المُسْتَهدَف منذ أربعين عاماً، بل منذ نصف قرن، لأنه الشاهد العنيد، الشاهد الصادق الذي يفضحهم جميعهم، ويفضح نفاقهم الوطني، وجشعهم، وتسلّطهم، فكان لا بدَّ أن يقتلوا هذا الشاهد.
وكان لا بدَّ أن يخرِّبوه. وبمختلف الطرق والوسائل. وعبر هذا الفريق أو ذاك. وبالتواطؤ مع هذا المتعطّش الى التسلّط والمناصب والمكاسب أو ذاك.
خرَّبوه ويخرّبونه، في سبيل تخريب صبر الصابرين، وتخريب أمل بقايا الباقين الرافضين اغراءات الهجرة.
ويخرِّبونه ردَّاً على المطالبين بالرأفة بهذا اللبنان الذي كان ولا يزال فاتحاً أبواب قلبه وأبواب منازله لكل العرب، في كل حالات الزمان عليهم.
لكنَّ الشاهد المضطهد قد يفاجئهم بعودته، وكأن شيئاً لم يكن.