«فتّش عن الثقة وعمّا يجري طبخُه في بعض الغرف المغلقة»؟ هي الخلاصة البديهية التي يمكن استنتاجها ممّا آلت إليه حركة المشاورات السياسية لتأليف حكومة سعد الحريري.
عاد التأليف إلى المربّع الأوّل، والأجواء التفاؤلية التي اقتحمت المشهد الداخلي منتصف الأسبوع الماضي وأوحت بأنّ الحكومة على وشكِ الولادة في نهايته، تبيّن أن لا أساس صلباً لها، بل كانت مجرّد قنبلة دخانية رُميَت على الحلبة السياسية التي تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى ما يشبه دوّامة مقفلة على أيّ حلول أو مخارج، يمارس فيها السياسيون ما باتت تسمّى لعبة « النطرة على الكوع»!
أكّدت مجريات التأليف وتعقيداته ومطبّاته أن لا ثقة بين السياسيين، الكلّ كامن للكلّ لصدّه، أو قطعِ الطريق عليه وإحباط طرحه. والسؤال البديهي الذي يطرح نفسَه وسط هذه الدوّامة، هو: لماذا إشاعة أجواء التفاؤل طالما إنّ الأمور لم تبلغ ولو تفاهم الحدّ الأدنى، حتى على البديهيات، وطالما إنّ عنصر الثقة مفقود بين القوى السياسية، وخصوصاً تلك التي ترتبط بين بعضها البعض بتفاهمات يبدو أنّها نُسِفت، أو تحالفات يبدو أنّها اهتزّت؟
ثمّة من يبرّر للرئيس المكلف ذهابه الى إشاعة الاجواء التفاؤلية، بأنّه بادر الى ذلك استناداً الى التصوّر الذي وضَعه لحكومته، كحلّ وسط راهنَ على انه سيَلقى قبولاً من مختلف الاطراف. لكنّ هذا التصوّر اصطدم بحاجز رئاسي وبرتقالي اعتراضي على تشكيلة حكومية تعاني ممّا سُمّي « عدم التوازن، والاختلال الفاضح في أحجام الاطراف، وبالتالي فشلَ لقاء بعبدا الاخير بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في تمريرها، بل أحبَط الولادة الحكومية كما أرادها الحريري.
وثمّة في المقابل مَن أخَذ على الحريري ما وصَفه «تسرّعه» في وضع هذا التصوّر، من دون مراعاة اعتراضات وتحفّظات بعض الأطراف سواء على حجم التمثيل ونوعية الحقائب، وبالتالي لم تشكّل صيغة الحريري عاملَ تعجيلٍ لتوليد الحكومة، بل شكّلت عامل تعقيد أكبر، بل إنّ بعض الاطراف اعتبرَته استهدافاً مباشراً لها، واللافت للانتباه هنا ما قاله جبران باسيل لجهة نفيِ الجوّ التفاؤلي الذي اشاعه الحريري ووصفِه بالوهمي وإشارتِه إلى وجود محاولة لإحراج فريقه، وتحميله مسؤولية التعطيل.
هل الاشتباك على حلبة الحكومة مرتبط بتأليفها أم هو أبعدُ من ذلك، ويخفي محاولات لخلطِ أوراق الداخل؟ وهل لهذا الاشتباك مسبّبات داخلية فقط، أم أنّ جانباً أساسياً منه له مسبّبات خارجية؟ وإنْ وُجدت فأين مصدرها؟
ربّما يُستنتج الجواب من الوقائع الداخلية التي تسارعت في الآونة الاخيرة، وتشِي بأنّ للاشتباك سطحاً حكومياً ظاهراً، وأمّا في عمقه فلا يمكن الجزم بخلوّه من العامل الخارجي، ومن هذه الوقائع:
– الاسترخاء الكلّي من طرف الرئيس المكلف، وربّما السبب الاساس لهذا الاسترخاء هو تعرّض خيوط الايجابية في العلاقة بين الرئاستين الاولى والثالثة لبعض «التملّع» على خط التأليف، ومِن هنا يبدو واضحاً التناغم الكامل من قبَل الحريري مع مطالب الحزب التقدّمي الاشتراكي كممثل شرعي وحيد للدروز في لبنان. ومطالب «القوات اللبنانية» وحجم التمثيل الذي تطالب به في الحكومة، والذي ترى انّ من الطبيعي ان يزيد عمّا كان عليه تبعاً للنتائج التي أفرزتها الانتخابات، وتبعاً ايضاً للحصة الوزارية في الحكومة السابقة حيث كانت تحظى بأربع حقائب عندما كان حجمها 9 نواب، فيما يحاول البعض أكلَ كلِّ الجبنة ويتعاطى معها بفوقية لا تتلاءم مع حجمها السياسي والنيابي الذي تضاعفَ عمّا كان عليه.
– حرب التغريدات التي توالت على مدى الأيام الماضية، والتي مازالت محتدمة على طرفَي السياسة في لبنان، بدءاً بتغريدة النائب السابق وليد جنبلاط حول العهد الفاشل، وكذلك التغريدة اللافتة للانتباه في مضمونها التي أطلقها النائب جميل السيّد حول العريضة النيابية لإسقاط تكليف الحريري، فأيّ رسالة تنطوي عليها هذه التغريدة، وصولاً إلى التغريدات الأخيرة لسمير جعجع والتي بدأها قبل يومين بتغريدة أشادت بالقرار السعودي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في السعودية، وأتبَعها أمس بتغريدة بعيدة المدى، أثيرَت حول مضمونها وإطلاقها في هذا الوقت تساؤلات، بحيث تناوَل فيها الوضع في اليمن، واعتبَر «أنّ التدخّل السعودي في اليمن كان حكيما».
– البيان الرئاسي الذي صَدر بالأمس، وتضمّن ما يشبه «الرسالة الحاسمة» لبعض القوى السياسية في الداخل للتأكيد على احترام الأحجام والأوزان السياسية، وللتذكير بصلاحيات رئيس الجمهورية في عملية تأليف الحكومة، وحقّه في اختيار نائب رئيس الحكومة ووزراء له. ويبدو أنّ هذا البيان لم تُملِه أسبابٌ مرتبطة بالتأليف فقط، بل ثمّة سببٌ جوهري تمّ الكشف عنه أمام بعض زوّار «الصالون الرئاسي»، ويقول «بوجود معلومات مؤكّدة عن حلف ثلاثي متجدّد بين سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، تمّ الإيعاز ببنائه من قبَل إحدى الدول الاقليمية، في مواجهة العهد لتعطيله.. إنّهم يريدون استهدافَ العهد وتفشيله».
لا تشِي الوقائع المتتالية فقط بأنّ خطّ التأليف مقطوع، بل يؤشّر إلى صورة ممزّقة سياسياً، تتمظهر فيها معالم لا علاقة لها فقط بالأحجام والحقائب في الحكومة، بل لها علاقة برسم مشهد سياسي جديد للمرحلة المقبلة. محاط بهالة من الأسئلة حول ماهية هذا المشهد، وكم هو حجم الحضور الإقليمي؟ وكم هو حجم ارتباط القوى الداخلية بحلفائهم الاقليميين؟ وما هو شكلُ العهد في تلك المرحلة الجديدة في ساحته وأمام خصومه وأمام من يريد أن يُفشله ويوجّه إليه ضربة قاضية، كما يقولون في التيار الوطني الحر؟ وكيف سيُدار البلد فيها؟ ومن سيقود الساحة السنّية؟ ومن سيقود الساحة المسيحية؟
ثمّة من يقول هنا إنّ السَنة والنصف من عمر العهد فترة انتهت بكلّ انسجاماتها ومسايراتها وتحالفاتها وتفاهماتها، وصار من الصعب على البلد إعادة إنتاج نفسه على الصورة ذاتها التي كانت قائمة، وأمّا الفترة المقبلة فمختلفة جذرياً، بما يُنذر بأنّ لبنان مقبل فيها على مرحلة تجاذب داخلي مرير من الصعب تقديرُ أبعادها وتداعياتها وارتداداتها ولا مداها الزمني. والخطير في الأمر أنّ بعض السياسيين بدأوا يحضّرون أنفسَهم لولوجِ تلك المرحلة ويتصرّفون وكأنّ عقارب الزمن اللبناني قد عادت الى الوراء.
هناك من يسأل عن «حزب الله» وما سرُّ صمتِه حيال ما يجري؟
يقولون في الحزب «لسنا في وارد التدخّل»، وهناك من يوضح « أنّ صمت الحزب لا يعبّر عن ريبة، إنّما هو يراقب، ويجوجل ويستخلِص المعطيات والعبَر، وينتظر ان يُخرج من قلب المشهد مضمونه الحقيقي، وساعتئذ يُبنى على الشيء مقتضاه».