لقد مرت سنوات والشعب اللبناني الصابر الصامد يتجرع الألم ويدق ناقوس الخطر وهو يشاهد الفساد وهو يتعمق ويستشري ويتوغل يوماً بعد يوم رغم تبدل الحكومات والمسؤولين اللذين ظلوا وما زالوا يغضون البصر عن هذا الفساد وهذا العبث بمقدرات الوطن ونهب قوت الشعب لصالح النافذين الجاثمين على صدور المواطنين والذين يعيثون فساداً دون رادع من احد, إما لأنهم يستقوون على الوطن بقوة السلاح والقوى الخارجية أو أنهم يلتقون حول المصالح التي ينتفعون بها او ان المسؤولين عاجزون بالأصل عن القيام بدورهم المطلوب منهم وكل ما يفعلونه لا يتعدى ذر الرماد في العيون والاستخفاف بالمواطنين وتجاهل النار التي تتأهب تحت اقدامهم, هذه النار التي سوف تحرق الأخضر واليابس في هذا الوطن الصغير.
لقد عانى الشعب اللبناني طويلاً من هؤلاء العابثين في مقدرات الدولة والقابضين على ممتلكات الشعب, حيث توغل الفساد وتفاقمت البطالة واستشرى الفقر والجوع وعم الغلاء وأصبح سمة وأمراً مفروضاً علينا وقد ادى الى ارتفاع الاسعار والتضخم الاقتصادي المستمر مع عدم تمكن الشريحة الكبرى من الشعب من الحصول على ما تحتاجه من اساسيات الحياة من السلع والوقود والغذاء والدواء والسكن الملائم والتعليم.
بينما يتمتع المارقون على القانون ورؤوس الفساد بتخمة وكسب فاحش على حساب عرق المواطنين الصالحين, حيث انتشر الغلاء والغذاء الفاسد والدواء المقلد والمنتهي الصلاحية وتزايد من ظاهرة العنف وانتشار الجريمة بسبب الفقر وغياب العدالة الاجتماعية وتفشي البطالة والسرقة والنهب والاحتيال والانحراف الاخلاقي والاختلاس وغسيل الاموال والتهرب الضريبي والجمركي, والتحايل في ملف المناقصات والصفقات حول المطامر والسدود وتأجيج الملفات الحياتية من النفايات مروراً بالأمن الغذائي وتسخير وسائل الاعلام لصالح المتنفذين الفاسدين مع شراء الضمائر وحجب الحقائق وعزل اصحاب الرأي السديد وتضليل الرأي العام , بينما تقف الجهات المسؤولة عاجزة ومتخاذلة او متعاونة او مستسلمة أمام الاعتداءات على هيبة الدولة وأملاكها, مثل الكسارات العشوائية التي تغير معالم وبيئة الوطن, والتعدي على شبكة الكهرباء وسرقة النحاس من الكابلات الممتدة بين القرى كما التعدي على شبكة مياه الشفة والأملاك البحرية والبرية.
ان استمرار هيمنة الفاسدين المتسلطين على مؤسسات الدولة وثروات الشعب وعجز المسؤولين عن وقف هذا الفساد أو تقليصه خوفاً أو تواطئاً قد اثقل البلاد بالديون والعجز المستمر في موازنات الدولة وسبب هدراً في المال العام واللهث وراء المساعدات والمنح والديون الخارجية والتطاول على مقدرات الشعب ونهب منظم لقوته في ظل غياب المحاسبة والمساءلة.
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ولقد حذرنا مراراً من بركان شعبي وشيك الانفجار بعد أن يئس الشعب ونفد صبره بعد سنوات من المسيرات والاعتصامات والمظاهرات السلمية ومن دون ان يلقى جواباً حيث غياب القادرين على تحمل مسؤولية الاصلاح الاداري, بينما مس الفساد عمق الشعب الذي لا تقتصر مطالبه على الاصلاح في صناديق الانتخابات ونظام الاحزاب والاعلام بل تمتد الى ضرورة اقتلاع الفساد من جذوره وتوفير سبل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ووقف الاعتداء على قوت الشعب وهدر المال العام.
بالأمس عرض عليَّ صديق ايصالاً مالياً لدولة مدنية في منطقة الشوف يتم من خلالها جباية مبلغ من المال لكل زائر يمر من المنطقة أو يريد التنزه على ضفاف النهر وقد ذكرني هذا المشهد بالايام التي خلت والتي كان يدور فلكها حول الحرب الأهلية.
إن التعدي على أملاك الدولة تحول إلى ثقافة مناطقية وطائفية، فلا تكفي الإجراءات القانونية لمحاربتها بل يجب محاربة الذهنية التي تعتبر المذهبية هي الأهلية الوطنية. عقود طويلة من التساهل الرسمي، لا بل التواطؤ مع ظواهر خرق القانون التي حللت سرقة أملاك الدولة وأموالها، ووضعت مرتكبيها في مرتبة اجتماعية رفيعة، هي التي دفعت باتجاه توسيع نطاقها، حتى أصبحت عادة لبنانيية أصيلة. فلا تصدق أن هناك أخلاقاً في السياسة فهي خدعة وكذبة يضحك بها أصحاب المصالح على البسطاء من الناس الطامحين فى حياة كريمة وهم يلهثون وراء رغيف خبز يُسكتون به جوع اولادهم، فكل حزب وتيار سياسي يعرض نفاقه وكذبه علناً والناس تتمسك بالأمل الذي هو فى الاصل وهم، وتلك كارثة كبرى ستعود على الوطن بالدمار.
لقد أضحت السياسة برنامج نفاق على المواطن، ولا بد أن يكون الكذب منظماً وممنهجاً حتى ينخدع البسطاء الذين يمنّون أنفسهم أمنيات وهمية ويصدقونها بأن المسؤول سوف يأتي لهم بالخير وأنه سوف يحمل لهم فوق كتفيه كل ما سوف يحتاجونه من رفاهية الحياة. سيقول أحدهم أنت متشائم للغاية وأن المسألة ليست بتلك الصورة القاتمة وأن الدولة والبرلمان والأحزاب يسهرون على رفاهية المواطن والعدالة الاجتماعية، وأقول أتمنى أن يخيب ظني ويتغير التاريخ والثوابت التي تعرفنا عليها عن كثب من أن السياسي هو بهلوان متمرس يقفز من محور الى آخر لتحقيق مصلحته الخاصة والعائلية الضيقة، وعندها سوف أتغاضى عن كل تلك الثوابت.. وأتمنى أن تتحقق العدالة الاجتماعية وأن يتبلور مشروع الاصلاح والتغيير المغلوط على أمل بأن يكون المستقبل مشرقاً على أيدي المسؤولين النافذين وأن لا نسمع الشتائم القائمة في الاعلام والسباب الفاضح في ما بينهم وبسبب الخلاف على مصالحهم الشخصية وأن لا يكون لديهم حصانة من أجل نهب وسرقه خزينة الدولة والمواظبة على الثراء السريع الغير مشروع، وأن تتحقق الرفاهية للجميع في ظل عدالة حقيقية ومساواة خلاقة، وأن تختفي النظرة التاريخية عن السياسي الانتهازي وصورته البشعة عبر التاريخ، ونتمنى أن تكون للسياسي أخلاق وطنية رغم أن التاريخ أثبت عكس ذلك، فهل سيتغير التاريخ نحو مستقبل واعد وهل ستتغير كل تلك الآفات التي أصبحت من الثوابت لدى السياسيين من توريث عائلي وحق مكتسب لهم ولعائلاتهم وهل سيتوقف نهب خزينة الدولة والمال العام حتى لا تسقط الجمهورية؟.