أخشى ما نخشاه على الصف المسيحي، بعهده العوني «القوي»، وجمهوريته القواتية «القوية»، ما هو حاصل في هذه الايام التي توالت فيها التطورات الدراماتيكية، خاصة تلك التناقضات العونية -القواتية التي بدأت تندلع وتقوى وتشتد منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، وصولا بها إلى «انفخات دف» اتفاق معراب، وتفرّق الداعييْن إليه والموقعين عليه، مصحوبا بإعلان شبه رسمي من قبل فخامة الرئيس الذي نعى ذلك الاتفاق، بينما ذهب رئيس القوات الدكتور جعجع إلى تلطيف هذا النعي، معلنا بقاءه رابطا معنويا مستمرا ما بين القوتين المسيحيتين الأكبر والأقوى في لبنان، من دون أن يخفى على أحد، أن وراء الأكمات ما وراءها من خلافات جذرية أخذت تضرب أسافينها في مشروع توحّد القوى المسيحية على النحو الذي سادت أجواؤه وأسبابه ونتائجه، مجمل الساحة اللبنانية عموما والمسيحية خصوصا.
وعلى الرغم من أجواء التفاؤل التي أطلقها الرئيس الحريري في تصاريحه المتتالية عن قرب الإعلان عن تشكيل الحكومة، لا يمكننا إلاّ أن نتوقف أمام بعض المستجدات المقلقة، رغم سيل الإعلانات المتتالية التي صدرت عن المراجع السياسة الأكبر والأفعل، ملمّحة ومصرّحة في الوقت نفسه عن آمال مستجدة لإمكانية تشكيل قريب للحكومة ومع ذلك، لا بدَّ من أن نتوقف أمام دقات ناقوس الخطر التي نشأت عن أحداث قرية الفرزل البقاعية. ومع أن هذا الحادث المعبر عن وضعية الاحتقان القائمة قد تم تطويقه وتحجيم آثاره، فإن ذلك لا يمنعنا من القول المتسائل: أإلى هذا الحد، وصلت أوضاع التدهور ما بين القوّيين، العهد القوي، والجمهورية القوية، والقلق الشديد الناتج عن ذلك، لا يتناول هاتين القوتين وحدهما، بل يمتد اهتزازاته وارتجاجاته المعبرة، إلى سائر اللبنانيين، ويزيد الأوضاع اللبنانية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية، سوءا وتراجعا واقترابا من مزالق الأخطار الوجودية.
كل ذلك والساسة اللبنانيون متخاصمون ومتلاطمون ومتباطحون حول تشكيل حكومة، كل المؤشرات الخطرة تدفع بالجميع إلى الاعتقاد بأنها يجب أن تكون مؤلفة منذ أشهر وليست لا معلّقة ولا مطلّقة كما هي أحوالها الآن، رغم الجهود المضنية التي يبذلها المخلصون الصابرون في هذا البلد المغلوب على أمره، وفي طليعتهم رئيس الحكومة المكلف، حيث ما زالت المناكفات والمعاندات والوقوف خلف متاريس المطالب والمطالب المضادة، وحيث ما زالت الرّؤوس الحامية في أكثر من موقع، وبشكل خاص في الموقع الأساسي المتشبث بما يتراءى له من قوة في مطالبه العراكية التي بدأها منذ الآن وقبل أربع سنوات من موعد استحقاقها، وحيث بات الهدف الإسترئاسي هو الغاية وهو الرّاية وهو السعي الدؤوب الطاغي على جميع الأوضاع الخطيرة ومستعجلة الحل السريع بطبيعتها الذاتية المتدهورة، وفي طليعتها الوضع الاقتصادي المتسارع في هرولته نحو حافة الهاوية، والغريب أن جميع الفرقاء يقرّون بخطورته ويدعون إلى معالجته ويبدون استعدادا لتقديم التنازلات والتضحيات، وفي الوقت نفسه، يُبقون أنفسهم وجهودهم وطاقاتهم وامكاناتهم مستنفرة في المتراس الأساسي لكلٍّ منهم، ألا وهو السلطة والإمساك بها وبمفاتيحها وأبوابها جميعا والوصول إلى وزاراتها، خاصة منها تلك التي تبيض ذهبا وفضة، متيحة للجالسين على كراسيها، جمع الثروات وتكديسها، ولتذهب إلى الجحيم، مصالح الناس وأعمالهم وسبلهم إلى العيش الكريم، وبعد أن باتت الكهرباء والمياه النظيفة والطبيعة النقية حلما بعيد المنال. وبعد أن أصبحت المدارس الخاصة بمتطلباتها وأكلافها العالية الأبواب بوجه الفئات الفقيرة والمتوسطة، أمرا متحكما بجيوب الآباء شبه الخاوية، وبعد أن باتت المدارس الرسمية عاجزة عن استيعاب آلاف الطلبة الذين يحاولون الإنتقال إليها هربا من أثقال كلفة المدارس الخاصة عليهم وعلى رواتبهم المتضائلة، وبعد أن أصبح خريجو الجامعات لدينا، متلهفين إلى فرصة عمل في أي مجال حتى ولو كان دون مستوى تحصيلهم العلمي أو في مجال لا علاقة له بميدان تخصصهم، وبعد أن باتت الهجرة إلى الأوطان القريبة أو البعيدة، دونها عثرات وموانع كثيرة… بعد كل ذلك، إذا جُمعت كل هذه الأوضاع المخيفة التي يتكون منها ومن مآسيها المتفاقمة، وضعنا اللبناني في هذه الأيام العصيبة، وإذا أضيفت إليها أحداث مستجدة كتلك التي ظهرت بعض معالمها وحساسياتها ومخاوفها في الفرزل، واذا أخذت بعين الاعتبار أوضاع المنطقة المتفجرة، والعالم القريب والبعيد المتحفز لاقتحاماته ولتعزيز خطوط الدفاع والهجوم لديه عن أخطار يسأل عنها ذلك المجتمع الدولي الغافل حتى الثمالة عن أصغر صنوف العدالة والإنسانية، وإذا أُخذ بعين الاعتبار ذلك الخطر الداهم المتمثل بالكيان الإسرائيلي الغاصب والساعي برعاية من الولايات المتحدة الأميركية إلى رمي بلاء التوطين على بلادنا الغارقة في أثقالها وأوجاعها ومتطلبات استمراريتها التي تتضاءل يوما بعد يوم.
إذا ما أُخذ ذلك كله بعين التبصر والتحسب والاعتبار، حقّ لنا أن نتساءل: أين نحن الآن وأين سنصبح غدا؟
المتفائلون… يذهبون إلى أن عملية الإنقاذ والخلاص، ربما تبدأ بتأليف سريع للحكومة، بعد مرور عشرة أيام أو يزيد قليلا، أعطاها الرئيس المكلّف للبنانيين باباً للتشكيل وللأمل.
هل يتحقق تفاؤل دولته بهذا الخصوص؟ كلنا نأمل تحقق هذه «المعجزة».
تصاريح الوزير جبران باسيل، في صبيحة اليوم التالي للمقابلة التلفزيونية التي بشر فيها دولته بإمكانيات حل قريب، علق عليها الرئيس الحريري بالقول المختصر المفيد: «انها غير إيجابية».
وفي الوقت نفسه، أطلق دولته تحذيرا للجميع، بأنه إذا اعتذر عن متابعة التأليف فهو لن يطلب إعادة التكليف، الأمر الذي سيضع الجميع أمام مسؤوليات شديدة الخطورة والحساسية حيث ستتحول المسيرة باتجاه لملمة المزالق السياسية والاقتصادية والميثاقية التي يمكن أن يؤدي إليها الوضع الذي سيستجد.
وعليه، نتوجه إلى فخامة الرئيس العائد من أرمينيا، ومن مقابلة مع الرئيس الفرنسي ماكرون، حامل أختام مؤتمر سيدر والحريص على وضعه موضع التنفيذ أكثر من اللبنانيين أنفسهم: ما زال الشعب اللبناني يعتبرك «أبو الكل» وأول واجبات الأب – الرئيس، وقاية وطنه وشعبه من مزيد من الاقتراب من حافة الهاوية، وذلك سيبرز خاصة في تسهيل عملية التشكل الحكومي وإطلاقها، ولعل البوادر المستجدة تمنحنا نفحة من الأمل، بعد أن كادت تقفل أبوابها ومنافذها في وجوهنا جميعا بشكل محكم.