خسرت تيريزا ماي الانتخابات، على الرغم من ان المسرح كان جاهزا لانتصار كاسح يسمح لها بدخول التاريخ من ابوابه الواسعة كثانية امرأة، بعد مارغريت تاتشر، تلعب دورا في انتشال بريطانيا من حال مزرية وجدت نفسها فيها.
لن تعني الخسارة انها لن تشكل الحكومة. فعلت ذلك على الرغم من انّ حزبها لم يستطع الحصول على أكثرية تسمح له باحتكار كل المقاعد الوزارية. احتاجت ماي الى النواب العشرة للحزب الديموقراطي الوحدوي في ايرلندا الشمالية كي تضمن أكثرية برلمانية بعدما حصل حزب المحافظين على 318 مقعدا، بينما المطلوب هو 326 مقعدا.
في كلّ الأحوال، تفادت بريطانيا كارثة حقيقية عندما فشل زعيم حزب العمال جريمي كوربن في جعل حزبه يتقدم على المحافظين بعدما قلّص الفارق الى حد كبير في الأسابيع الستة الأخيرة. ليس كوربن سوى يساري متطرّف يتقن فنّ المزايدات واطلاق الشعارات والوعود الفارغة التي جذبت الشباب البريطاني. لم يكن معروفا كيف كان كوربن سيغطي الانفاق على مشاريع معيّنة وعد بها المواطنين العاديين، خصوصا الشباب.
كان ردّ فعل الأسواق سلبيا، الى حدّ ما، على نتائج الانتخابات. هبطت العملة (الجنيه الإسترليني) قليلا، لكن انتصار حزب العمّال كان سيؤدي الى هبوط حاد للجنيه والى بداية هرب الرساميل والاستثمارات الأجنبية، استكمالا لما حصل بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي (بريكسيت) في مثل هذه الايّام من العام الماضي.
ما الذي جعل ماي تخسر رهانها؟
لم يكن اقبال الشباب على التصويت بكثافة لحزب العمال السبب الوحيد الذي قلّص الفارق مع المحافظين. هناك أيضا شخصية رئيسة الوزراء البريطانية نفسها. فتريزا ماي تتصرف بطريقة متعالية وتضع نفسها فوق السياسيين الآخرين. اتكلت على حال الانهيار التي كان يعاني منها العمال عندما أعلنت اجراء الانتخابات المبكرة وكي ترفض مناظرة تلفزيونية مباشرة مع كوربن. أرسلت من يمثلها الى تلك المناظرة ما أتاح لكوربن الخروج منتصرا كون ممثلة ماي (وزيرة الداخلية في حكومتها) لم تكن في مستوى سياسي قديم يحسن المراوغة والمناورة والتظاهر بانّه يدعم الطبقات الفقيرة وانه قادر على تلبية مطالب الشباب.
عندما أعلنت ماي في منتصف نيسان الماضي اجراء انتخابات مبكرة في الثامن من الشهر الجاري، كان هدفها تكريس زعامتها لحزب المحافظين. كان هناك فارق يزيد على عشرين نقطة بين حزبها وحزب العمّال الذي خسر في احد الانتخابات الفرعية مقعدا كان يحتفظ به منذ عقود عدّة. في النهاية، لم تصل وزيرة الداخلية في حكومة ديفيد كاميرون الى موقع رئيس الوزراء الّا بسبب استقالة الأخير الذي أراد البقاء منسجما مع نفسه اثر نتيجة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي.
فضلا عن ذلك، كانت ماي تراهن على انّ تمتع حزبها بأكثرية كبيرة في مجلس العموم سيجعلها قادرة على الدخول في مفاوضات بريكسيت مع الاوروبيين من موقع قوّة. كانت النتيجة ان عدد المقاعد التي للمحافظين في مجلس العموم تراجع، فيما زاد عدد مقاعد حزب العمّال. دخلت ماي عمليا لعبة لا تتقنها ولا تعرف أصولها. تبيّن انّه ينقصها الكثير مما كانت تتمتّع به مارغريت تاتشر التي كانت خطيبا مفوّها وشخصية تعرف كيف التعاطي مع الناس واسكات خصومها واحراجهم في أي مناظرة تلفزيونية او نقاش في مجلس العموم.
لم تحسن ماي تقليد تاتشر، بل لم تحسن حتّى ان تحقق نتيجة افضل من تلك التي حققها كاميرون قبل عامين، علما ان سلفها كان سياسيا فاشلا على كلّ صعيد، خصوصا عندما أوصل نفسه الى فخ نصبه له اليمين المتطرّف الذي يريد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.
لن تتمكن تيريزا ماي من دخول المفاوضات مع شركائها الاوروبيين السابقين من موقع قوّة. ستبدأ المفاوضات قريبا، ولكن ليس استنادا الى حسابات رئيسة الوزراء البريطانية ووفق ما ستطرحه من شروط. هذا، على الأقل، ما يؤكّده المسؤولون الاوروبيون الذين يجمعون على ان بريطانيا ستكون خارج الاتحاد الاوروبي في غضون عامين.
الثابت ان تيريزا ماي ستحاول، قدر الإمكان، الحد من الثمن الذي ستدفعه بريطانيا بسبب استفتاء بريكسيت. ستكتشف انّ ما كانت تحلم به لن يتحقّق، خصوصا ان الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب لا تفكّر سوى بمصالحها.
تدخل بريطانيا مرحلة صعبة لم يستطع سياسيوها التأقلم معها في وقت استطاعت فرنسا التقاط أنفاسها والتأسيس لمرحلة سياسية جديدة بعد انتصار ايمانويل ماكرون على اليمينية مارين لوبن. ما كشفته الانتخابات الرئاسية الفرنسية انّ البلد قادر على مباشرة إصلاحات سياسية في العمق بدءا بايصال رجل من نوع ماكرون الى موقع رئيس الجمهورية. تكمن اهمّية ماكرون، الذي كان الى ما قبل فترة قصيرة اشتراكيا، في انّه تجاوز صيغة اليمين واليسار في عالم تتغيّر فيه كل الأصول والقواعد التي تتحكم بالحياة السياسية بسرعة كبيرة.
حسنا، ستخرج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. لكن الانتخابات الأخيرة كشفت ان هناك ازمة عميقة يعاني منها بلد صوت فيه المستفيدون من الانتماء الى الاتحاد الاوروبي مع الخروج منه. كذلك، استطاع، بعد سنة من ذلك، سياسي ينتمي الى يسار حزب العمّال إعادة الحياة الى حزب كان على زعيمه توني بلير ان يغيّر اسمه الى حزب «العمّال الجديد» كي يستطيع الفوز في انتخابات العام 1997 بعد سنوات طويلة من سيطرة المحافظين على الحياة السياسية.
لا يمكن لبريطانيا الّا ان تتغيّر. هناك أمور غير مفهومة تجري في المملكة، من بينها العمليات الإرهابية الأخيرة وطريقة التعاطي معها. لم يعد مفهوما ايضا كيف تخرجها مجرّد اشاعات من نوع ان «المهاجرين سيجتاحون البلد» من الاتحاد الاوروبي وان تكون تيريزا ماي في وضع يسمح لها باكتساح حزب العمال وتدميره نهائيا ثم يحل موعد الانتخابات بعد ست أسابيع وتجد نفسها في منافسة حادة مع شخص يشكل خطرا عاما على اقتصاد البلد!