< إلى وقت قريب كنا نردد أن السياسة الأميركية لا تتغير بتغير الرؤساء، واستمر هذا الرأي سائداً حتى جاء الرئيس المنتخب دونالد ترامب، هنا فقط أدركنا أن السياسة الأميركية قد تتبدل أو تتغير جذرياً، بحسب الرئيس!
تلك النقطة تحديداً تكشف أننا، وبقدر ما يوجد لدينا سياسيون ومحللون ومراقبون، لم نقرأ جيداً العقلية الغربية ولم نستوعبها، وما هي الحدود والصلاحيات التي تحكمها، وهذا – بلا شك – أسهم كثيراً في إضعاف أساليب التواصل مع تلك الأطراف، وهذه لا تنطبق علينا فقط، بل على شريحة واسعة لتكشف حال «عسر الفهم» التي نتميز بها، فعلى سبيل المثال، منذ ترشح الرئيس ترامب لمنصب الرئاسة، حتى الساعات الأولى من توليه، كانت الاحتفالات من واشنطن إلى طهران، مروراً بلندن وبقية الدول الأوروبية، ودول عربية تدّعي «المقاومة»، بحجة أن وصوله هو طلاق بائن مع السعودية، هكذا روّجوا وبهذا احتفلوا، وتصدرت صور ترامب وسائل إعلامهم، ونال ما نال من التصفيق والتأييد، لكن ما أن تولى الرجل منصبه وبدأت سياسة إدارته تتكشف، بما فيها من توثيق للعلاقة مع السعودية، اختلف المشهد تماماً وبدأنا نسمع النواح من جانب، والتحرك الكسير من جانب آخر. هذا ما جناه ترامب عليهم. الآن، وبعيداً عن الزعيق والتهديد والوعيد، دعونا نتساءل: هل ترامب عدو لإيران؟
للوهلة الأولى، وعلى طريقة كثير منا، قد نقول بذلك، وقد نذهب إلى ما هو أبعد، بأن نتوقع توتراً أكثر في العلاقات، أو حتى بمواجهة محدودة، في الخليج. ذلك رأي، لكنه يبقى رأياً. لكن ماذا لو نظرنا إلى النصف الممتلئ من الكأس، عندها سندرك أن إدارة ترامب وضعت الخطوط العريضة لسياسته، لكن لا زلنا حتى الآن ننتظر خريطة الطريق التي ستقدمها لتنفيذ تلك السياسات، وطالما أن هناك سياسات، إذاً نحن نقول إن ترامب ليس عدواً لإيران، ومهما بلغت حدة التوتر فهو بلا شك يأمل بأن تكون طهران حليفاً، لكن ذلك قد يكلف طهران كثيراً، وهو ما يمنعها حتى الآن من التعامل بصفتها دولة لها مسؤوليات مثلما عليها، إذ إن إيران تريد التعامل بمثابة ند لأميركا، وهو ما لا يتوافق مع المكانة ولا مع القوة العسكرية ولا مع الاقتصاد الأميركي، المعادلة هنا تميل، وبقوة، لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. وفي المقابل، إذا ما كانت إيران تستند إلى الحليف الروسي «الموقت»، فهذا الأخير بالتأكيد سيميل إلى مصلحة بناء علاقات متماسكة مع واشنطن، إذا ما كان الخيار الثاني هو طهران. إذاً فطهران ما بعد ترامب ليست هي ما قبله، وهذا انعكس جلياً في حالات الاستجداء التي باتت تقوم بها في المنطقة.
نأتي إلى الطرف الآخر، السعودية، الحليف الأبرز على مر التاريخ للولايات المتحدة، فالرياض أعدت نفسها جيداً للقيام بدورها، بحليف أو من دونه، ونجحت بقوة في بناء شبكة تحالفات جديدة أظهرت مزيداً من ثقلها وإمكاناتها، حتى اقتصادها، الذي كان على رغم قوته ينظر إليه نظرة المشكك، خرجت من إطاره وقدمت نفسها أنها دولة تعتمد على نفسها، وقوتها غير مرتبطة بأسواق أو بائعين ومشترين، وبخلاف ذلك سعت إلى القيام بدور توافقي لاستعادة القرار العربي المخطوف، والاستقرار في المنطقة، وهذا أعطى انطباعاً إيجابياً عززه الاستقرار السياسي والالتفاف الشعبي، وعلاوة على جميع تلك العوامل، تقاطعت مصالح المنطقة مع الولايات المتحدة، ولا سيما في ما يخص الشأن الإيراني، فكان لا بد من الخروج بهذه النتيجة.
ووفقاً للمعطيات، التي ذكرناها أحسنت السعودية قراءة المشهد وتعاملت معه بحكمة، إلا أن ما ينقص ذلك المشهد ليكتمل بضع خطوات لضمان الانتقال إلى المرحلة التي تليها، وهنا أول ما يتبادر إلى الذهن العمل الكبير الذي يقوم به وزير الخارجية عادل الجبير، فهذا الرجل تمكن بحنكته وسرعة بديهته وهدوء أعصابه من تشتيت السياسة الإيرانية وآلتها الإعلامية، لكن – وكما هو معروف – طهران تنتهج سياسة النفس الطويل، وهذه لا يمكن هزيمتها إلا بأسلوب مماثل، وهنا أستحضر بعض اللقاءات التي جمعت المسؤول السعودي بنظرائه من أوروبيين وأميركان، فقد كان لحديثه عن دعم إيران للإرهاب وتقديم الأدلة والبراهين، أثر كبير ولافت، لكن مع ملاحظة بسيطة واحدة فقط، هي أن من خاطبهم الجبير كانوا على علم بالجرائم الإيرانية، وعلى رغم ذلك كانوا يصافحونها، إذاً الإجرام الإيراني ليس جديداً بالنسبة لهم، وأيضاً بالنسبة لإيران لم يكن مفاجئاً انكشاف الأمر، لأنه معلن، ولأنها تقر به على لسان مرشدها، إذاً فما الجديد الذي يمكن فعله في هذه المرحلة؟
في ظل التصعيد، الذي تنتهجه إدارة ترامب مع طهران، طرح في شباط (فبراير) اقتراح لوضع الحرس الثوري الإيراني في قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، لكن الإدارة الأميركية قررت تأجيل النظر في القرار، ومثل هذا القرار لو اتخذ لأصبحت ايران في مهب الريح؛ فالحرس الثوري، وبحسب الأنباء المعلنة، يسيطر على 80 في المئة من الاقتصاد الإيراني، وقرار مثل هذا إذا ما اتُّخذ فمن شأنه أن يطاول مسؤولين نافذين في طهران، بخلاف تجميد أرصدتهم في الخارج، وهنا تتضح أهمية الخطوة وضرورة السعي بجميع وسائل الضغط لإتمامها إذا ما أردنا الحد من الإرهاب الإيراني.
هذا جانب، أما الجانب الذي لا يقل أهمية فهو توظيف الإعلام في شكل احترافي، فالإعلام أثبت أنه أحد أقوى الأسلحة، وأكثرها جدوى، فهناك دول سقطت أنظمتها من دون رصاصة واحدة، لكن ذلك لن يتم من دون تضافر إعلامي ودبلوماسي كبير يسعى إلى كشف فضائح النظام الإيراني وفظائعه، التي يرتكبها بطريقة احترافية، ويبحث عن سبل كشف الحقيقة التي يسعى الإيرانيون لإخفائها.
من دون هذين العاملين لن تسقط إيران وخططها، وعلينا أن نتيقن أنه بينما نقرأ الآن، تعكف إيران على وضع خطط للرد على الانتكاسات المتلاحقة التي تمنى بها.