ماذا عنى رئيس الجمهورية بإعلانه في مجلس الوزراء الخميس انه “مستمر في العمل لبناء الجمهورية الثالثة”؟ كلامه تمّ تطويق التداول به لكنه قيل فعلاً. والرئيس يعني ما يقول ويُفترض انه لا يُلقي الكلام على عواهنه.
يدرك الرئيس عون حتماً ان عهده يعاني سكرات الموت. وسواء وصل الى هذه الحال بفعل سياساته، أم لفشل تياره وصهره في ممارسة السلطة غير المسبوقة التي وضعت بين ايديهما، فالنتيجة واحدة: غرِقَ الجنرال في كرسي بعبدا وغرقت الكرسي، وابتلَّ البلد بالانهيار.
الجنرال عون لاعب في الحياة السياسية اللبنانية منذ ثلاثة عقود. ومهما حاول التنصل من الطبقة السياسية التي أطبقت على أنفاس اللبنانيين وأفقرتهم فإنه يبقى أحد أعضائها، مذ كان معارضاً عنيفاً أو حين تحول شريكاً مساهماً من موقع المسؤولية الحزبية او الرئاسية.
نعلم ان الجنرال عون كان رافضاً “اتفاق الطائف”. ونذكر كيف خوَّن النواب الذين شاركوا في صياغته، وخاض أقسى حرب مسيحية – مسيحية بعد إقراره، لكنه عاد واعترف به مرغماً في رسالة سلَّمها للسفير “رينيه ألا” قبيل انتقاله الى السفارة الفرنسية في 13 تشرين الاول.
لا ندري ما الذي قصده الرئيس عون في تصريحه، لكنه لم يقصد بالتأكيد عملية الاصلاح ولا محاربة الفساد، فهما جزء من العمل الروتيني في اي نظام سياسي. لكن يبدو ان الرئيس ضاق ذرعاً باتفاق الطائف وبالصلاحيات التي خوَّلها مجلس الوزراء مجتمعاً. وهو منذ استقر به المقام في بعبدا يحاول عبر “رئيس الظل” او المستشارين القانونيين التوسع في تفسير صلاحياته وتكييف المواد الدستورية، ليرسي نظاماً رئاسياً يفاقم تشويه “مجلسية” الرئيس بري لنظام الطائف.
لم يكن “دستور الطائف” مجرد وثيقة اجتهد المشرعون والفقهاء لإخراجها بهدف تطوير النظام الديموقراطي البرلماني الذي قامت “الجمهورية الاولى” على أساسه، بل أتى بعد حرب أهلية – اقليمية تناسلت جملة حروب وأسفرت عن مئة ألف قتيل. وهو لبَّى حينذاك حاجة وطنية وانسجم مع واقع ديموغرافي وسياسي وعسكري تسبب الجنرال عون بجزء غير بسيط منه، لذلك فإن البحث في اتفاق بديل يعني فتح أبواب التناقضات الداخلية الطائفية والمذهبية على مصاريعها، فيما المطلوب العودة الى روح الطائف وتطبيقه تمهيداً لتطويره. وإذ ان “الثنائي الشيعي” وبالغطاء المسيحي للجنرال عون أحدث جروحاً نازفة في بنية “الطائف” خصوصاً بعد غزوة 7 أيار و”اتفاق الدوحة”، فإنّ الذهاب لمزيد من المغالبة هو مشروع “فتنة” في أقل تقدير.
“الجمهورية” التي يريدها الشعب بعد 17 تشرين هي “دولة المواطَنَة” لا مزرعة الثنائيات والثلاثيات و”المكوِّنات”، وتحتاج اقتلاعاً للتركيبة السياسية الفاسدة وليس تغيير الدستور.
في انتظار التوضيح، يستحسن ان يقتنع فخامته بأنّ قدرته على تأسيس الجمهوريات حلم بعيد… واللبنانيون يحسبون بقية الوقت لعهدٍ يمرّر الوقت.